الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

ليبيا وتوظيف القوى الكبرى التاريخ للهيمنة على الجغرافيا

ليبيا. (أرشيفية)
ليبيا. (أرشيفية)
A+ A-
روعة قاسم
 
لا مجال للشكّ في أنّ ثروات ليبيا الطاقيّة الهائلة، وسهولة استخراجها وتكريرها وتصديرها، هي التي تجعل بلد عمر المختار محطّ أنظار وأطماع العديد من القوى الإقليمية والدولية التي تتصارع اليوم في الميدان من أجل الحصول على نصيبها من هذه الكعكة. وتلقي هذه الدول بكلّ ثقلها مستغلّة كل أوراقها في هذه المعركة الشديدة الشراسة، بفعل الرهان الثمين الذي تقتتل من أجله هذه الدول، من خلال بيادق ليبية يتم توظيفها لخدمة مصالح المتصارعين الكبار وراء الحدود.
 
وتعدّ العلاقات التاريخية بين ليبيا وهذه القوى الطامعة، اليوم، في ثروات موطن عمر المختار، أحد المبررات التي تقدمها هذه "البلدان الغازية" لوجودها على التراب الليبي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وحتى استخبارياً. وكانت هذه العلاقات تقوم بالأساس في الماضي على الاستغلال والهيمنة، وأيضاً على الوجود لتأمين حدود البلدان المجاورة لليبيا والاستحواذ على ثرواتها. وقد اختلط في بعضها الجانب الوجداني الروحي مع الإمبريالي التوسعي، حتى بات الفصل بينهما صعباً، بل مستحيل.
 
وينظر الأتراك إلى الغرب الليبي على أنه إيالة عثمانية سابقة أطلقوا عليها تسمية إيالة طرابلس وحكموها منذ سنة 1551، بعد أن طردوا منها فرسان مالطة أو فرسان القديس يوحنا، وفصلوها نهائياً عن الدولة الحفصية في تونس التي كانت بدورها تصارع لصدّ الغزوات الإسبانية. وجلب الأتراك أتباعهم من انكشارية القوقاز والبلقان ومنطقة البحر الأسود وجزر بحر إيجيه، وولّوهم شؤون إيالة طرابلس المستحدثة التي ضمّوا إليها الشرق الليبي. ومن هذه العائلات الوافدة العائلة القرمنلية التي حكمت ليبيا بداية من سنة 1711.
 
ولعلّ هذا ما يفسر اليوم الوجود التركي الكثيف في الغرب الليبي، وتحديداً في العاصمة طرابلس، وأيضاًفي مدينة مصراتة، حيث معقل العائلات التركية والانكشارية التي جاءت مع العثمانيين واستقرت في الإيالة الطرابلسية المستحدثة. ولعلّ هذا ما يفسر أيضاً السعي المحموم لتركيا لمنح ذوي الأصول العثمانية في ليبيا، سواء أكانوا أتراكاً أم غيرهم، الجنسية التركية. وذلك لخلق جالية في ليبيا تستطيع تركيا من خلالها الهيمنة على البلد. وفي هذا الإطار يأتي دعمها وزير الداخلية فتحي باشاغا، ذا الأصول العثمانية، شأنه شأن فايز السراج رئيس حكومة الوفاق في طرابلس.
 
أما الإيطاليون المستعمرون السابقون لليبيا بداية من سنة 1911، فلديهم شعور بالغبن من خسارة مستعمرتهم المتوسطية السابقة بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية أمام الحلفاء، وذلك قبل اكتشاف النفط. وتصرّح الصحافة الإيطالية علناً كما بعض السياسيين في روما، بأنّ أمامهم فرصة تاريخية اليوم لاستعادة ما افتُكّ منهم بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، ولإحياء أمجاد الإمبراطورية الرومانية الغابرة. وقد تجلّى ذلك بالخصوص خلال مؤتمر باريس عن ليبيا منذ ثلاث سنوات، وهو ما اضطر فايز السراج إلى التحوّل من باريس إلى روما لتهدئة خواطر أسياده الجدد، وطمأنتهم الى أنّ يدهم الطولى ما زالت في بلاده باعتبارهم رعاة للمصالح الأميركية والبريطانية في الملف الليبي.
 
وتستند فرنسا بدورها الى تاريخها في المنطقة لتبرير وجودها في ليبيا، إلى جانب مبررات أخرى منها حماية أمن جنوب المتوسط، ومحاربة الإرهاب، وحماية مصالحها في تشاد والنيجر وغيرها من التبريرات. فالفرنسيون احتلوا جنوب ليبيا وتحديداً إقليم فزان بين سنتي 1943 و1955، وقد رابطوا فيه حتى بعد استقلال شمال ليبيا. وقد صرّح الجنرال ديغول سابقاً بأنّ إقليم فزان تونسي، وأنّ تونس لم تنل استقلالها بعد في ذلك الوقت. وبالفعل فقد غادر الفرنسيون فزان سنة 1955، أي تاريخ حصول تونس على استقلالها الداخلي.
 
كما لم ينس الفرنسيون أنّ مدينة الكفرة الليبية الصحراوية كانت منطلق جيوشهم لتحرير باريس من الاحتلال النازي الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، ومنها أقسم الجنرال فيليبلوكلير بأنه لن يهدأ في قتاله الإيطاليين والألمان إلّا بعد أن يرفع العلم الفرنسي في كنيسة ستراسبورغ. وكان الجنرال فيليب لوكلير، ثاني أشهر جنرالات فرنسا الحرة بعد الجنرال ديغول، قد زحف على مدينة الكفرة من تشاد تسانده كتيبة من الجنود السنغاليين، وافتكّ المدينة من الإيطاليين، وأقسم قسمه الشهير الذي جعل له وللمدينة الليبية مكانة خاصّة في وجدان الفرنسيين. حتى إنّ بعضهم عدّ المدينة أرضاً فرنسية في الصحراء الليبية.
 
وتوجد فرنسا اليوم بقوّة في ليبيا،دفاعاً عن مصالح شركاتها النفطية وحماية لحدود تشاد والنيجر حيث منابع اليورانيوم والنفط والثروات المعدنية، وخصوصاً المناطق الشمالية في النيجر التي تضم أراضي الطوارق ومدينة آغاديس الطارقية التاريخية حيث تنشط مجموعة شركات"أريفا" النووية الفرنسية العملاقة في استغلال مناجم سومايير وكوميناكوإيمورارن. كما توجد فرنسا في ليبيا حماية لإرثها الروحي الحضاري التاريخي، الذي يحرّك وجدان الفرنسيين ويدفعهم إلى عدم التفريط في الكفرة، خوفاً من طمس آثار الجنرال لوكلير وقسمه الشهير الذي بات يحظى بهالة من القداسة لدى الفرنسيين.
 
ويشار إلى أن شعوباً أخرى لديها تاريخ حافل في موطن المختار، لكن يبدو أن ضعفها وقلة حيلتها يحولان دون إحيائها أمجادها الغابرة. على غرار تونس، التي لديها إرث قرطاجي في الغرب الليبي، وشهيدان سقطا في المنطقة المطلّة على خليج سرت، وهما الأخوان فيلن، وذلك عند ترسيم الحدود مع الإغريق الذين كانوا يسيطرون في ذلك العهد من عصور ما قبل ميلاد المسيح على الشرق الليبي. ويبدو أنّ اليونانيين بدورهم لا قدرة لهم اليوم على الدفاع عن موروثهم الحضاري في ليبيا ومصالحهم في شرق المتوسط، ويكتفون أمام الرغبة التركية في الهيمنة على الثروات الطاقية البحرية للمنطقة، بتحريض الاتحاد الأوروبي على أنقرة.
 
فالاتفاقية الأخيرة التي أبرمها أردوغان مع السراج وتمكّن الأتراك من استغلال المياه الليبية، لافقط الإقليمية بل الاقتصادية الخالصة التي تمتد لعشرين ميلاً في أعماق البحر، ستفتح الطريق على مصراعيه للعثمانيين الجدد للوصول إلى المائدة النفطية لشرق المتوسط من جهة الغرب، وفي ذلك إضرار بمصالح اليونان ودول المنطقة. ورغم أن أغلب مدن الشرق الليبي يونانية التأسيس، إلّا أنّ أثينا لا تمتلك اليوم القوة العسكرية ولا حتى "الناعمة" لاستغلال إرثها الحضاري للدفاع عن مصالحها في شرق المتوسط، وللتصدّي للاعتداءات التركية عليها التي لم تعد تقتصر على قبرص. 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم