السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

دعوة لاقتحام حفل غرز السكاكين

المصدر: "النهار"
"دعوة لاقتحام حفل غرز السكاكين" (أرشيفية- "النهار").
"دعوة لاقتحام حفل غرز السكاكين" (أرشيفية- "النهار").
A+ A-
الدكتور طلال خوجة

كانت المسيرة الطلابية متّجهة نحو ساحة كرامي في طرابلس في الأسابيع الأولى للانتفاضة، حين توقفت فجأة على البولفار أمام فرع مصرف لبنان.
 
وكانت هذه المسيرة قد انطلقت من المدينة الجامعية في المون ميشال، وهي تضمّ بضع مئات من الطلاب، وعشرات الأساتذة، بعد أن عقدوا ندوات صباحية حوارية في حرم كلية العلوم، ركّز في خلالها المتكلّمون على ضرورة استعادة الدور الطلابي النقابي المستقلّ في الحياة الجامعية والمدنية اللبنانية بعد طول سبات. وفجأة، تحوّلت الهتافات الطلابية من المطالب الجامعيّة والشبابيّة إلى شعارات وشتائم ضدّ رياض سلامة وجماعة المصارف، وكادت تتحوّل المسيرة إلى عملية اقتحام لفرع مصرف لبنان، لا سيّما حين انضم إليها حشد من المواطنين الغاضبين، لولا أن تدارك بعض المشاركين الأمر، فاكتفى الجميع بدقائق اعتراض أمام المصرف قبل أن تتابع المسيرة وجهتها باتجاه ساحة الانتفاضة، التي تحوّلت إلى ساحة الجذب الرئيسيّة في المدينة وعموم الشمال.
 
لم يأتِ انتقال بعض الغضب من السلطة الفاسدة والفاجرة والمجرمة نحو مصرف لبنان والمصارف عموماً من فراغ، بل ساهمت في رفع منسوبه عوامل عدّة أهمّها:
 
1- عدم تحديد الفساد السياسي والتلاعب بالدستور والتفكك السيادي المرتبط بالتواطؤ والخضوع لفائض القوة المسلحة الفئويّة والتبعيّة كسبب رئيسيّ للأزمات والانهيارات واستفحال الفساد المافيوي، خصوصاً أنّه أدّى إلى عزل لبنان عن محيطه العربي والدولي. ولبنان، لطالما شكّل جسراً حضارياً يربط بين أوروبا والغرب عموماً والشرق والعرب خصوصاً، سواء عبر مرفئه، الذي دمّر، أو مطاره الذي يختنق من القهر، أو عبر أثيره الذي أصبح مسموماً ثقافياً وبيئياً.
 
2- سمحت black hole السياسية باختراق المنتفضين، عبر الترهيب والسلبطة أولاً، وعبر التطييف والتخوين ثانياً، وعبر محاولات الاحتواء وصولاً إلى الاختراق الأمني وتوجيه الغاضبين نحو العنف، خصوصاً في وسط بيروت ثالثاً.
 
وقد ساهمت مجموعات وشخصيّات وأحزاب غير سيادية بتسهيل هذا الاختراق، خصوصاً حين أغفلت الجانب السياديّ، وركّزت على موضوع الفساد، ووجّهت النشاطات باتجاه مصرف لبنان وشيطنة رياض سلامة، ممّا سهّل ابتزازه من قبل السلطة، خصوصاً حزب الله والجماعة العونيّة.
 
3- تعامل أصحاب وجمعية المصارف مع أزمة السيولة، والأزمة المصرفيّة عموماً بطريقة مذلّة ودنيئة، بل خسيسة مع المودعين العاديين، بعد أن حوّلت إلى النافذين والأقوياء أموالاً إلى الخارج، ممّا ساعد على اختراق الحراك الغاضب، وتوجيه بعض المتظاهرين نحو تكسير فروع المصارف، خصوصاً في أيقونة الانتفاضة طرابلس.
 
هكذا هوت صورة المصارف العملاقة وتحوّلت إلى دكاكين، بالرّغم من مباني إداراتها الشاهقة، علماً أن تعاميم وقرارات البنك المركزي، وفي غياب مقصود لقانون كابيتال كونترول، ساعدت هذه المصارف على امتصاص جانباً من أزمتها عن طريق هيركات مارسه المودعون عمليّاً، ووصل مؤخّرا لحلاقة عالناشف، بالرّغم من صراخ المسؤولين المنافقين بعدم المسّ بالودائع.
 
أما الإيجابية النسبية للتعميم 158 بالإفراج عن بعض الفريش دولار، فقد شوّهتها الاستثناءات العشوائيّة والاستنسابيّة غير العادلة وغير الدستورية، فضلاً عن مقاربة ملتبسة لإدارات المصارف في تطبيق التعميم، ممّا جعل التردّد والحذر قويّاً عند المودعين.
 
لا نرغب في تحميل المصارف، والمصرف المركزي خصوصاً، أكثر ممّا يجب، علماً أن رياض سلامة يتعرّض للابتزاز من السلطة، خصوصاً من طرفي ذمّية مار مخايل، كما تتعرّض بعض ممتلكات المركزي كشركة الميدل إيست لحملات مغرضة، علماً أنه بالرّغم من نجاحها الإجمالي في مداراة الأزمة وفي الحفاظ على موظّفيها، فإنها تركت أصحاب مكاتب السفر تنهش الأموال المستعادة (refunds)، التي دفعتها الشركة بالفريش دولار عن تذاكر لم يستعملها أصحابها بسبب إغلاق المطار.
 
وقد هدّد جميل السيد، بالنيابة عن مشغّليه، الحاكم بالاسم من أجل عصر ما تبقى من أموال الناس، ولاقاه رجل الظلام جبران باسيل وباقي أصوات التهويل، مستغلّين آلام ومآسي المواطنين، التي سبّبتها سلطة لا وطنية، ولا دولتية للبلد من مثلث بعبدا، عين التينة والسراي، برعاية حارة حريك.
 
ومع ذلك لا يستطيع الحاكم المتراجع دائماً عن قراراته تحت الضغط والتهويل، عبر مؤتمراته الموسميّة وأرقامه التبريرية أن ينفض يديه من حفلة غرز السكاكين التي تمزّق جيوب المواطنين، خصوصاً مع استحضار أقطاب Haute couture مقصّاتهم لتفصيل واستعراض البطاقات الانتخابية التمويلية والتموينية، بعد أن ملؤوا مستودعاتهم وجيوب أتباعهم من التجار، عبر استنزاف وهدر المليارات تحت مسمّى الدعم الكاذب، علماً أن التهريب المحميّ والمنظّم والمستمرّ زوّد اقتصاد النظام السوري بالمصل، بعد أن زوّد مجرميه بالنيترات القاتلة على ما يُقال.
 
وبالرّغم من أن الحاكم حذّر مراراً من خطورة عدم دفع اليورو بوند، كما حذّر سابقاً من موضوع السلسلة والتوظيف العشوائي وكثير من السياسات الفاشلة، فإنّه سرعان ما كان ينضوي في الركب، ويتكيّف مع عملية الاستنزاف المالي، خصوصاً في تحميل المودعين والمواطنين عموماً أكلاف الأزمات.
 
إن الحافة الماليّة الخطيرة التي يقف عليها البلد، والتي يسمّونها الاحتياط أو التوظيفات الإلزامية، باتت تتطلّب أوسع استنفار ممكن من قبل جميع الحريصين على بقاء هذا البلد، سواء أكانوا في المعارضات الشعبية أم في المعارضات الرسمية. فلا يجب انتظار تشكيل حكومة أو انتخابات أو تدخّل دوليّ أو أيّ عوامل أخرى؛ ذلك أن تجفيف هذا الاحتياط، فضلاً عن كونه جريمة بحق المودعين المقهورين، فإنه يضرب القطاع المصرفيّ، ويوجّه ضربة نهائية لإمكانية نهوض الاقتصاد المشلول.
 
ومع أنه كان يجب أخذ المواقف العملية منذ بدء الأزمة، إلا أنه خير لنا أن نتحرّك متأخّرين من أن نبكي لاحقاً على ملك أضعناه بتلكّؤنا.
 
والمواجهة ستكون شرسة وصعبة، وفيها عضّ أصابع وصرير أسنان، إذ سيكون علينا إجبار الحاكم على وقف نزيف الاحتياط وتحرير جزء من أموال المودعين بما يتعدّى التعميم 158 الذي يشطر المودعين استنسابياً، وبما يتجاوز أيضاً مهزلة التعميم 151 الذي يُجبر المودعين عليه عمليّاً بسبب الحاجة أو لانعدام الثقة، وبما يقلّص من الفئات التي تحتاج المساعدة. كذلك يجب أن يجري الحوار بين المعارضات (التي تكون قد وضعت تصوراً مشتركاً وخطة منسّقة)، وبينها وبين المجتمع الدولي مباشرة حول تطوير سبل مساندة الفئات الأكثر حاجة إلى الصمود في هذه المرحلة الصعبة والخطيرة التي تمرّ بها المنطقة والبلد المخطوف.
 
لا يوجد دولة في لبنان، حتى أن الدولة العميقة مختنقة. في الواقع، يوجد سلطة ومواقع نفوذ ومايسترو مسلح يقود الأوكسترا الأبوكاليبسية الزاعقة. ولذا، على المعارضات بجميع منوّعاتها النقابية والمدنية والسياسية والشبابية خصوصاً، فضلاً عن النخب المتلكّئة أو المنكمشة في داخل شرانق طوائفها وصومعاتها أن تأخذ دورها في الدفاع عن مرافق البلد المتداعية، وفي مقدّمها المرفق المالي، الذي قد تتهاوى بسببه معظم المرافق.
 
بكلمات قليلة: يجب اقتحام حفل غرز السكاكين لمواجهة الضغوط على الحاكم وجماعة المركزي بضغوط مقابلة، علّنا نستطيع اجتذاب جماهير الانتفاضة نحو هذه المواجهة المصيريّة والمتعلّقة بحياتهم اليومية.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم