السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

الهوية اللبنانية القاتلة

المصدر: "النّهار"
جيرار ديب
جيرار ديب
قصر الصنوبر (أرشيفية).
قصر الصنوبر (أرشيفية).
A+ A-
منذ تأسيس هذا البلد عام 1920 على يد الجنرال الفرنسي غورو في قصر الصنوبر في بيروت، ولبنان يفتش عن هويته الضائعة. فبين ذي وجه عربيّ، الذي نصّ عليه الدستور عام 1943، ولبنان بلد عربيّ، بعد اتفاق الطائف عام 1990، طرحت فكرة المثالثة في إدارة الحكم عندما شعرت الطائفة الشيعية بأنه آن الأوان للمشاركة في القرار التنفيذي عبر تكريس وزير المالية في حصّتها، بعدما أصبحت تشكّل ثلث تعداد لبنان السكاني.
 
الأمر لم يتوقف عند النظام القائم، أو حتى عند إعادة صياغته بما يتناسب والأحجام السكّانية، بل تعدّى ذلك إلى تحديد الهوية التي ترتبط دائمًا بالمحاور المتصارعة في المنطقة والعالم.
 
 
أيّ لبنان نريد؟
يجب التفتيش عن إجابة واضحة لهذه المعضلة.
 
كانت ثورة 1958 شاهدةً على ذلك الانقسام اللبناني حول الهويّة. فلبنان أراده الرئيس الراحل كميل شمعون جزءًا من المحور الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة ذات النظام الرأسمالي الحرّ. من هنا، طرح الرئيس فكرة الانضمام إلى حلف بغداد المدعوم من الأميركي. أمّا الأحزاب الباقية، وعلى رأسها الزعيم الاشتراكي الراحل كمال جنبلاط، وأقطاب سنيّة، فكانت تدعو إلى الالتحام بالقومية العربية، التي أسّسها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، والمتحالف مع الاتحاد السوفياتي سابقًا، ذي الأيديولوجية الإشتراكية. فبين تحديد هوية أيّ لبنان نريد، وأين نريده، كانت الثورة التي أسقطت 250 قتيلًا، لأجل هويّة لم تُحدّد يومها.
 
يشهد لبنان اليوم انهيارًا تامًا على الأصعدة كافّة، إذ لا حلول إنقاذية تلوح في الأفق؛ فحالة الفوضى هي المسيطرة على المشهديّة العامة. طوابير الذلّ على حالها أمام محطات الوقود في كلّ المناطق؛ انقطاع يكاد يكون تامًّا في الكهرباء؛ أدوية غير متوفرة في الصيدليّات، ومستشفيات تدقّ جرس الإنذار النهائي أمام مرضاها؛ هذا ناهيك عن تزايد حركات الاحتجاجات اليومية من قطع للطرقات، إلى اعتداءات متكرّرة على الملك العام والخاص، وصولًا إلى التفلّت الأمنيّ الذي بات ظاهرة يومية يعيشها اللبناني.
 
أصبح اللبناني غارقًا بين أمواج الأزمات، التي تتوالى تصاعديًّا وأفقيًّا، لدرجة أنّه بات يردّد ما قاله رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي عندما استفحل وباء كورونا في بلاده "إننا فقدنا السيطرة، انتهت حلول الأرض، الأمر متروك للسماء".
 
وضع لبنان اليوم ليس نتيجة الصدفة، أو سوء القدر، بل هو نتيجة حتميّة لعقوبات غربيّة، ومقاطعة عربيّة، تسعى لعدم أيرنة لبنان، أي جعله مواليًا لإيران، عبر مليشياتها المتمركزة فيه، والمتحكّمة في مفاصيل القرارات السياسيّة فيه؛ ولا تريد أيضاً أن تفسح في المجال للروسي ولا للصيني أن يجدا ضالتهما في لبنان، ويأخذانه إلى حالة التموضع ضمن الحلف الشرقي.
 
لذا، قرأت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن خطورة ارتماء لبنان في حاضنة المحور الخصم، بعد سلسلة دعوات وجهها أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، إلى المسؤولين في لبنان للتوجّه شرقًا، فضلًا عن إعلانه أنه على استعداد لاستيراد النفط الإيراني حتى لو عارضه الجميع. هذا دليل واضح على التخوّف الغربي من السماح لتسلّل المحور الممانع إلى قلب القرار اللبناني، واستبدال نظامه من ليبرالي إلى ممانع. لهذا، كان مؤتمر دعم الجيش اللبناني الذي انعقد إلكترونيًا برعاية فرنسية، الخميس في 17 حزيران 2021، وخرج بسلسلة من التوصيات الداعمة لهذه المؤسسة، وسط تخوّف المجتمعين من انهيارها نتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية.
 
في السياق عينه، وحرصًا على عدم وقوع لبنان في المحظور، وكي لا يتمّ التغيير في هويته، حضّ وزراء خارجية الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية المتناحرين اللبنانيين على التعاون في ما بينهم لمعالجة الأزمات التي يشهدها بلدهم.
 
إن الدعم الأميركي والسعودي للجانب الفرنسي يهدف إلى تفعيل مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون الهادفة لإنقاذ لبنان من الانهيار الكبير. لكن الفرنسي اصطدم بعوائق أفشلت مبادرته، وكانت من جانب حزب الله. لهذا طالبت فرنسا إيران بمنح الوكالة الوطنية للطاقة الذرية حق الوصول الكامل لمراقبة مواقعها. وكأن المطالبة هذه توضع في موقع المقايضة أكثر منها في موقع الالتزام، لأنّ الجانب الفرنسي قد يكون في دعوته هذه يشكّل ضغطًا على إيران لإيقاف تدخلات حزب الله المعرقلة لمبادرتها في لبنان.
 
صحيح أن الاستنفار الغربي والعربي بات واضحًا وحريصًا على عدم سقوط مؤسّسات هذا البلد، لا سيّما الأمنية منها، إلا أن الخصم الشرقي لا ينام. لهذا، لا تقتصر المحادثات بين المسؤولين اللبنانيين والروس على الجانب السياسي فحسب، بل تتعداه إلى الجانب الاقتصادي، حيث أعرب المسؤولون الروس للّبنانيين عن الرغبة بالاستثمار في قطاعي النفط والطاقة.
 
إضافةً إلى أنّ الاستثمار الروسي لن يكون فقط اقتصاديًا، بل أمنيًا، حيث تدرك القيادة الروسية جيدًا، أن استقرار سوريا من استقرار لبنان، وأيّ زعزعة لهذا النظام ستنعكس مباشرة على مكاسبها في سوريا. لهذا، تعتبر روسيا أن دخولها لبنان هو استثمار مربح، من النواحي كافّة.
 
أخيرًا، بين هذا وذاك، بات من المؤكّد أنّ الهوية اللبنانية على طريق التقسيم والتشرذم، وأنّ فكرة التقسيم باتت تلوح في الأفق، إذ لا يمكن للبلد أنّ يذهب إلى التقسيم من دون حرب. هذا ما حصل في تشيكوسلوفاكيا، وفي البوسنة والهرسك وفي السودان، وهو ما سيحدث في لبنان. لهذا يبقى السؤال الرئيسي: هل سنشهد حربًا أهليّة تحدث فرزًا جغرافيًا للسكان، مع ما يقتضيه ذلك من فظائع، تمهيدًا لتفكيك الهوية والكيان الهشّ منذ ولادته؟
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم