السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

بين ميكي ماوس ومعرض الكتاب

المصدر: "النهار"
صورة سليماني في معرض الكتاب في بيروت (نبيل إسماعيل).
صورة سليماني في معرض الكتاب في بيروت (نبيل إسماعيل).
A+ A-
د. مكرم رباح
 
من الأمور الممتعة التي ترعرعت عليها بفضل والدي، هي الزيارة السنوية لمعرض الكتاب العربي الذي كان يُنظم خلال سنوات الحرب الأهلية في الغرفة الزجاجية التابعة لوزارة السياحة اللبنانية في بيروت، قبل أن ينتقل المعرض بنسخته الحالية إلى قاعة البيال على الأراضي التي رُدمت من أنقاض مدينة بيروت.
 
الداخل الى قاعة المعرض هذه السنة يلاحظ تغّيرات عدة، ومنها جناح الراحل والناشر رياض الريس، وهو أول المرحبين بالزائرين. افتقد هذا العام رياض، الغائب عن مقعده يستقبل العابرين ويدخن "السيجار"، وكذلك غياب دور الجناح كصالون ثقافي وسياسي.
 
من الأمور الأخرى المؤسفة هي المشاركة الخجولة لدور النشر اللبنانية والغياب شبه التام لدور النشر والمؤسسات العربية التي كانت عادة ما تحوّل هذا الهنغار الحديدي البارد إلى واحة فكرية وثقافية، وفرصة للقاء العديد من الأصدقاء في كافيتريا المعرض، حيث تدور النقاشات حول القيمة التي تحملها آخر الإصدارات القيّمة منها والسخيفة، ومن ضمنها "تأثير النمط الأفروآسيوي على إنتاج زراعة القنب الهندي" ومواضيع متصلة.
 
الوضع السياسي والاقتصادي المزري ومقاطعة بلدان عربية عدة للبنان ومدينة بيروت، تركت المشاركة محصورة بتسعين داراً لبنانية وأربع من سوريا ومصر، بينما شاركت عشر دور نشر من إيران.
 
وكما يبدو، فإن غياب العنصر العربي ترك الساحة خالية لإيران وبعض المؤسسات ذات الطابع الديني، لتبرز، إن لم نقل تحتل الحيز العام، فدور النشر الإيرانية أو التابعة لميليشياتها اللبنانية تشارك بشكل منتظم في المعرض، يرفعون صور قادتهم المتهمين بمجازر متنقلة في العالم العربي، وكما يبدو فإنه لم يكن أمراً مستهجناً، رغم اعتراض المعترضين على ما وصفوه بـ"الاحتلال الإيراني" لمعرض الكتاب.
 
في ظل غياب الدولة وحكم القانون وسيطرة عقلية الميليشيات على الفضاء العام، لم يعد مفاجئاً أن يُستفز أصحاب الصور الميليشيوية من الموسيقى التي كانت تصدح في أرجاء المبنى، بخاصة أنهم لا يحبذون سماع أغاني أم كلثوم وفيروز أو غيرها من موسيقى، فهم يرون في أي مظهر من مظاهر الفرح تحديأ واضحاً لسرديتهم المظلمة، التي تحاول باستمرار تدجين اللبنانيين وتصويرهم كمجتمع وأفراد كارهين للحياة.
 
للذاكرة البعيدة بعض من الصور المرعبة التي رافقت الظهور الأول للحرس الثوري في شوارع العاصمة بيروت وساحل المتن الجنوبي، الضاحية، وفي الجنوب والبقاع حين رمى عناصر هذه الميليشيات بحملة منظمة مادة الأسيد الحارقة على النساء "السافرات"، وتفجيرات استهدفت محال بيع المشروبات الروحية.
 
الإشكال الذي وقع في المعرض مع مجموعة صغيرة من السياديين، بعد حجب الموسيقى، أتى ليذكر بالحقائق أعلاه، ولكن للأسف لم يستطع الناشطون تقديم سردية مختلفة عن تلك التي يختبئ خلفها الجناح الإيراني في لبنان. إذ ليس صحيحاً حصر الصراع بين ثقافتي الموت والحياة؛ فهذه الثنائية تنتقص من القيمة المعنوية للتعددية اللبنانية والتي دمرها تحالف السلاح والفساد، فاتهام التحالف الميليشيوي بترويج ثقافة الموت، يعطيهم شرعية معينة تفيدهم بقمع الأصوات الداخلية في البيئة الشيعية المخطوفة. فثقافة الموت والهوس بالشهادة هي فقط تضليل لمشروع توسعي سياسي عنصري وفاشي لا يمتلك القيم الإنسانية التي يدّعيها نظام الولي الفقيه، وغزو معرض بيروت هو وليد الثقافة الإيرانية تاريخياً بل هو إنتاج هجين له ارتباط بمرحلة حديثة.
 
من الأجدر بهؤلاء الحريصين على هوية لبنان الثقافية و"اللبنانية" الدفع نحو نهضة مشروع ثقافي لبناني وعروبي جديد غير مرتهن بتمويل الدول العربية الصديقة، والتي لم تعد تنظر للبنان كموقع جدير بالاستثمار.
 
صورة قاسم سليماني المصممة على نسق الـpop art لن تجعل منه بطلاً مثل إرنستو تشي غيفارا، إلا لدى الذين يجدون في قتل أطفال سوريا والعراق عملاً بطولياً، ويرون في تهريب مخدر الكبتاغون مقاومة يُفتى بها.
 
لا يكفي المطالبة بالسيادة من دون تأمين خطاب ثقافي واضح يعترف بخصوصية لبنان ويؤمن المقومات الأساسية لحوار أو حتى جدال مع ثقافة طارئة على لبنان، ليس في سبيل إلغائها بل من أجل تقزيمها والتركيز على سخافتها وضحالتها الفكرية.
 
لبنان الذي نطمح له هو معرض كتاب وحيّز عام يسمح لهؤلاء أن ينصبوا صورة لجزارهم الراحل وهو ينظر إلى القدس، كما يحق لنا أن نضع صورة لميكي ماوس وتحته عبارة "يا قدس نحن قادمون"... صورتان تؤكدان سخافة ادّعاء البعض ولكن تحفظ حقهم بالاختلاف.
مقاومة المشاريع الإلغائية تبدأ عندما يعي اللبنانيون أن نهضتهم السياسية والثقافية لن تأتي من الخارج، فحماية القيم الإنسانية والحضارية التي يدّعونها، تحتاج إلى شجاعة فكرية جامعة.
 
نُشر على موقع "النهار العربي"
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم