الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

طابور الماء في لبنان... من الزعيم وليس من الطبيعة

جيرار ديب
جيرار ديب
أزمة مياه تلوح بالأفق في لبنان (حسن عسل).
أزمة مياه تلوح بالأفق في لبنان (حسن عسل).
A+ A-
حذّرت منظمة "اليونيسف" التابعة للأمم المتحدة من نقص حادّ في المياه في المرحلة القصيرة المقبلة. وأشارت المديرة التنفيذية لليونيسف "هنريبيتا فور"، في بيان، إلى أن "أربعة ملايين شخص في جميع أنحاء لبنان، معظمهم من الأطفال والعائلات الأكثر هشاشة، من المحتمل أن يتعرّضوا لنقص حادّ في المياه أو لانقطاع إمدادات المياه الصّالحة للشرب لديهم في الأيام المقبلة، ما لم تُتّخذ إجراءات عاجلة".

تطرّق البيان إلى تحذير أصدرته اليونيسيف، الشهر الفائت، مفاده أن أكثر من 71 في المئة من سكّان لبنان قد لا يظفرون بالمياه. وأفادت الوكالة التابعة للأمم المتحدة أنها بحاجة إلى 40 مليون دولار سنويًا لتأمين المستوى الأدنى من الوقود والكلور وقطع الغيار والصيانة اللازمة لإبقاء منظومة المياه الحيوية في حالة العمل.

لكن كيف يمكن فعل هذا في بلد يعاني انهيارًا اقتصاديًا هو الأخطر في تاريخه؟
مشكلة جديدة تضاف إلى مشكلات لبنان الكثيرة، وأزمة إضافيّة ستثقل كاهل اللبناني وتضعه أمام مصيره العبثي؛ إنها مشكلة "شحّ المياه"، وعدم وصولها إلى شريحة واسعة من اللبنانيين. فهل تكون طوابير الماء أسوأ من طوابير البنزين ولو بأشكال مختلفة؟

يُعدّ لبنان أغنى بلد عربي بالمياه لجهة استقلال المياه فيه، لا بل البلد الوحيد في العالم العربي، إلى جانب المغرب وجبال الأطلس، إذ إن كل منابع المياه فيه تنطلق من أراضيه. فهو لا يتأثّر كمصر بمنابع النيل وبسدّ النهضة في أثيوبيا، وبإمكانية استعمال فائض في الرّي في السودان، ولا يتأثر كسوريا بسدّ أتاتورك التركي على نهر دجلة. لكنّه بالرغم من مميّزاته المائيّة، ونوعيّة صخوره الكلسيّة القابلة لاختزان المياه، وتدفّقها على شكل ينابيع، وحدوده الـ 210 كلم على البحر الأبيض المتوسط، فإنّه يتأثّر بإدارة مسؤوليه الفاشلة التي أوصلت اليونيسيف إلى التحذير من انقطاع المياه عن الأغلبية الساحقة من اللبنانيين.

صحيح أن دولًا عربية وإقليمية تعيش أزمة "شحّ المياه" بسبب التصحّر المناخي وأسباب تعود إلى صراعات الدول على الأمن المائي لديها، إلا أن شحّ المياه في لبنان سببه تلكؤ المسؤولين عن وضع خطط لترشيد الثروة المائية بسبب الكيديات السياسية بين الفرقاء، أو بسبب الهدر المتعمد في الأموال المخصّصة لبناء السدود، أو لعدم توافر الأموال لصيانة معامل تكرير المياه، أو عشوائيّة إعطاء الرّخص لحفر الآبار الارتوازيّة التي تجعل من البعض يستأثر بالمياه الجوفية، وهو نوع من الاحتكار للمياه، تمامًا كما المشاهد الصادمة التي نراها في احتكار المشتقّات النفطيّة أو الأدوية من قبل اللبنانيين.

إن مشروع سدّ بسري كان مثالًا صارخًا لفشل المعنيّين في إدارة أزمات المياه المتوقّعة، إذ إن البنك الدوليّ وضع تقديرات أشارت إلى حاجة بيروت الكبرى إلى 305 ملايين متر مكعب بحلول 2030، لأن المياه الجوفيّة لا يمكنها تغطية الكميّة المطلوبة بسبب الاستخدام الجائر لها؛ ففي بيروت ومحيطها هناك 80 ألف بئر، ربعها مرخّص، والباقي محتكر. لهذا، رصد البنك الدولي مبلغًا بقيمة 350 مليون دولار لتنفيذ سدّ في منطقة بسري في الشوف، كي تستطيع الدولة اللبنانية معالجة أزمة شحّ المياه في بيروت وضواحيها. لكنّ دخول اللبنانيين في كيدياتهم السياسية دفع البنك الدولي إلى حجب المبلغ عن المشروع وتحويله إلى مكافحة وباء كورونا.
المشكلة في لبنان ليست في وجود الأزمات، بل في كيفية إدارتها من قبل المسؤولين الذين نشروا في البلاد فوضى، وعاثوا في إدارات الدولة فسادًا، من دون أن يقدّموا إلى طرح الحلول المناسبة لمعالجة الأزمات. سلّطت "فور" في بيانها الضوء، لمعالجة المشكلة، على المسؤولين لضرورة "اتخاذ الإجراءات العاجلة"؛ ولكن مهلًا، من هو المسؤول القادر على اتخاذ مثل هذه الإجراءات من خلال التعالي عن مصالحه الضيّقة، والتفكير في المصلحة العامة؟  
وكيف له أن يتّخذها وهو جزء من المشكلة، لا بل مشارك في وضع السياسات التي أوصلت البلاد إلى هذا الانحدار الفوضوي الكبير؟  

صحيح أن اتخاذ الإجراءات العاجلة هو المطلوب، ولكن من أين سيؤمن حاكم المصرف المركزي رياض سلامة الدولارات لإجراء الصيانة وتأمين الطاقة المولّدة لمعامل التكرير، طالما لم يزل يطالب السلطات بتشريع قانون المسّ بأموال المودعين، ومجلس النواب يرفض. لقد عبّر سلامة أكثر من مرة في مقابلاته عن أن احتياطيّات الدولة الإلزامية بالعملات الصعبة قد نفدت، ما انعكس سلبًا على شكل الأزمات في لبنان، وشحّ المياه واحدة منها.

إضافة إلى مشكلة المصرف المركزي وشحّ دولاراته، هناك الصراعات الداخلية بين اللبنانيين وكيفية تفويتهم الفرص المطروحة أمامهم لتحسين ظروفهم. أضف إلى ذلك التفنّن في اعتماد المسؤولين "سياسة الإلهاء" التي ذكرها المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي، في كيفية إلهاء الشعب عن القضايا الأساسية، وتوجيهه نحو القضايا المعيشية، ما جعلهم يستغلّون الطاقة المائية بعد الطاقة النفطية ليضعوا اللبناني أمام طابور جديد، يحمل فيه غالونًا لتعبئته بمياه للشرب.

إن طابور الماء سيكون أشدّ تأثيرًا من غيره، لشدّة تأثير المياه على صحة الإنسان، وقد ينقلب السحر على الساحر، ونرى احتجاجات شعبية تسقط جميع المسؤولين الذين أوصلوا اللبناني بسياساتهم الغاشمة إلى شراء الماء، في الوقت الذي يعوم فيه لبنان على بحيرات من المياه.
يبقى هذا حلمًا أساسيًا للتخلّص من طبقة حاكمة استحكمت بالعباد والبلاد، وأوصلتهم إلى الوقوف مذلولين في طوابير لتأمين أبسط حقوقهم.

لكن من يتعمّق في دراسة تاريخ لبنان ومناطقه وطوائفه وذهنية أبنائه يُدرك جيدًا أن لا طابور مازوت أو خبز ولا حتى طابور ماء قد يحرّك ثورة حقيقية على المسؤولين. ذلك لأن التركيبة اللبنانية ببساطة تختلف عن تركيبات بلدان العالم كافّة، من ناحية الانتماء الأعمى والتأكيد اللامحدود للزعيم والطائفة، ما يجعل من اللبناني ثائرًا فقط لنصرة المسؤول أو الطائفة.

أخيرًا، إن شح المياه في لبنان ليس بتأثير عوامل طبيعية، بل بسبب شحّ السيولة في العملات الأجنبية، ما قد يهدّد بالوقوف في طوابير جديدة عنوانها تعبئة "غالون ماء". فطالما لبنان غير قادر على تأمين الدولارات المطلوبة أقلّه لصيانة معامل الكهرباء ومعامل تكرير المياه، وطالما سياسات الهدر والفساد لم تزل قائمة والكيدية السياسية عنوان الحياة السياسية، فالبلاد ستسير بخطوات مسرعة نحو العطش الكبير؛ فأهلاً بكم في لبنان، في جهنم الحقيقية.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم