الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

ماذا بعد ميشال عون؟

المصدر: "النهار"
من تظاهرة سابقة مناصرة لـ"التيار الوطني الحر".
من تظاهرة سابقة مناصرة لـ"التيار الوطني الحر".
A+ A-
إيلي حداد
 
لا ينكر أحد أن الرئيس ميشال عون استطاع، بالرغم من كل التناقضات والإشكاليات، التي لاحقت صعوده السياسي من قيادة الجيش إلى منفاه فعودته إلى الوطن، أن يؤسس لحالة جديدة في السياسة اللبنانية، تُشكّل إطاراً ينخرط ضمنه العديد من الملتزمين كما المناصرين والمحبّذين، باتت تُعرف بـ"الحالة العونيّة".
 
هذه "الحالة العونية" بدأت في الثمانينيّات مع بروزه كقائد للجيش، ولاحقاً كرئيس للحكومة الانتقاليّة المرحليّة بعد تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية في العام 1988.
 
نواة "الحالة العونية" تشكّلت وقتذاك من أكثريّة الجنود والضبّاط التابعين للجيش اللبناني بقيادة عون، كما من مجموعة كبرى من معارضي الاحتلال السوري، الذين رأوا في ميشال عون الخليفة الطبيعي لبشير الجميل، ملهم المقاومة المسيحية، ومجسّد فكرة العمل السياسي كنتيجة فعلية لتلاقي مبدأين: الأول هو الانخراط العسكري في الدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه، والثاني أقرب إلى النسك الرهباني المترفّع عن الإغراءات المادية.
تلت فترة صعود ميشال عون تلك حربان مدمّرتان: الأولى ضد الوجود السوري، فيما الثانية الأكثر تدميراً الحرب الداخلية ضد "القوات اللبنانية"، التي أدّت إلى إنهاك الطرفين وخروجهما من المعادلة السياسية بعد الطائف، وإلى نشوء شرخ عميق داخل المجتمع المسيحيّ، لم تُعَد لحمته حتى اليوم.
 
تجلّى الظهور العوني بعد العودة من المنفى على شكل "الشمعونية" السياسية. فميشال عون حاول أن يجمع حوله، كما الرئيس شمعون، مجموعة من الكادرات والسياسيين من مختلف الطوائف والتوجّهات السياسية، وشكّل بعد انتخابات 2005 تحالفاً واسعاً، ضمّ إلى جانب الأكثرية المسيحية نواباً من مختلف الطوائف.
في خلال تلك الفترة، التي كانت تشهد على تحوّلات كبرى، حاول ميشال عون، بحسب الوضع السياسيّ، وتبعاً لتكتيكات ظرفيّة، التركيز على واحد أو أكثر من المحاور الثلاثة التالية في عمله السياسي:
 
1- المحور الطوباوي: هو محور "العصب المسيحي"، ويرتكز على نظرة طهرانيّة إلى السلطة، خطابها الأساسي محاربة الفساد و"استرداد الحقوق" المسلوبة، أي إعادة تثبيت الوجود المسيحي في الوطن ـ الملاذ.
 
2- المحور العلماني الدستوري: هو خط الرئيس فؤاد شهاب باني مؤسسات الدولة، ومتخطّي الطوائف، ويرتكز على الجيش اللبناني باعتباره إحدى دعائمه الأساسية.
 
3- المحور الليبيرالي البراغماتي: هو المحور الذي طغى في النتيجة على المحاور السابقة، وأدّى في ما أدّى إليه إلى إعادة النظر في التحالفات السياسية بما يتناقض حتى مع المبادئ التي قام عليها "التيار الوطني الحرّ"، ومنها إعادة التحالف مع النظام السوري، بالإضافة إلى صياغة "ورقة التفاهم" مع "حزب الله" وإدخال مجموعة جديدة من "الكادرات" إلى "التيار"، لم يكن لها أيّ دور في نشأته، ولم تكن يوماً ملتزمة بمبادئه، فكانت الضرورة السياسية ـ العملانية وراء استقطاب هذه المجموعة من المتموّلين غير الإيديولوجيين إلى "التيار". أما مهندس هذا النمط الثالث البراغماتي في الحالة العونية فلم يكن ميشال عون، بل صهره المهندس جبران باسيل. وقد أدّى استئثار باسيل، وتغليبه هذا الاتجاه على كلّ ما سبق، إلى إخراج بعض المناضلين المخضرمين الذين عايشوه في مراحله الأولى من "التيار".
 
هكذا، وفي فترته الذهبية، أي من 2005 إلى 2019، نجح ميشال عون في ضمّ مروحة كبيرة من الإيديولوجيات حوله، وكان هو، بشخصيّته المثيرة وتاريخه الحافل، الضامن الوحيد لهذه التناقضات. فجلس عن يمينه الثائرون على الفساد وقدامى الأحزاب المسيحيّة المنتفضون على ما اعتبروه "المساومة التاريخية" في اتفاق الطائف، فيما جلس إلى يساره منظّرو "النيو ـ ليبيرالية" وأصحاب المصالح الكبرى. وعلى مثال كميل شمعون، ضمّ حوله بعض الخارجين على الحزب السوري القومي، إضافة إلى "المهاجرين" الذين تركوا أحزاباً أخرى مثل الكتائب والوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية والحزب الشيوعي وغيره.
 
ضمان ميشال عون لهذا "الخليط الإيديولوجي" المتنوّع ما لبث أن بدأ يتصّدع من الداخل، خاصة بعد وصوله إلى الرئاسة ومواجهة الاستحقاقات الاقتصادية الكبرى التي انفجرت بوجهه في ثورة 17 تشرين 2019. وما ظهور حركة اعتراضية داخلية من أهل البيت سوى تعبير عن بداية التشرذم الذي سيشهده "التيار" بعد حقبة ميشال عون، وكانت أولى بوادرها انتفاضة العميد شامل روكز، الذي دعا الشعب في تشرين الأول 2019 إلى المشاركة في الثورة. شامل روكز، ابن المؤسسة العسكرية وممثل "النهج الشهابي"، انتفض في وجه "الأوليغارشية"، التي يمثلها جبران باسيل، وهو القادر فعلياً على الدمج بين المحورين الأول والثاني: أي المحور الطوباوي والمحور المؤسّساتي. هكذا، من غير المستبعد بعد ميشال عون أن يحصل ما حصل لإمبراطورية الإسكندر المقدوني: أن ينقسم "التيار" ثلاثة أجنحة أو أكثر، وأن يعود بعض من ترك أحزابه التقليدية إلى تلك الأحزاب، فيما يبقى الأمل أن تتشكّل من كلّ هذه التجارب حركة علمانيّة جديدة، تتخطّى الماضي الأليم، وتضع الأسس الفعليّة لبناء وطن ديموقراطيّ، تحلّ فيه دولة القانون والمؤسّسات مكان دولة المزارع المافيويّة، وتعلو على كلّ أشكال الزبائنيّة السياسيّة، التي أدّت إلى تفكّك أوصال الدولة.
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم