الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

دولة الفوضى في وطن الأحلام

أرشيف النهار.
أرشيف النهار.
A+ A-
 
 
يوسف لحود- محام
 
لا ريب أنّ الفوضى هي الطريق الأسهل والأقصر للانحلال ثمّ الاندثار.
والفوضى ليست ما يحدث في الشوارع والساحات بل قد تكون هذه الصورة الأقل ضرراً، إنما الفوضى الأخطر هي ما يحدث في المؤسسات وفي مراكز القرار...
 
وبنظرة سريعة إلى الدولة، ولا سيما بعد تعديل الدستور في ضوء اتفاق الطائف، ماذا نجد؟
1 - فوضى في تطبيق الدستور وتفسيره؛ فقد أصبح مادّة مطّاطة يتناولها العالِم كما الجاهل على حدّ سواء، وكلٌّ بحسب مقاسه ومصالحه، بدلاً من أن يكون الدستور الصخرة الصلبة لبناء دولة القانون.
2 - فوضى في سَنّ قوانين بدلاً من أن تكون وسيلة لحلّ مصاعب أو مشكلات، فباتت هي التعقيدات للمواطن والعبء على خزينة الدولة (من مثل قوانين الإيجارات وقانون سلسلة الرتب والرواتب وسواها...).
3 - فوضى في تأليف الحكومات وإهدار الوقت متناسينَ أنّ:
 
"من هدر مالي فقد هدر ما يمكن استرجاعه بسهولة،
ومن هدر كرامتي فقد هدر ما يمكن استرجاعه بصعوبة،
أما من هدر وقتي فقد هدر ما لا يمكن استرجاعه".
ناهيكم عن إشراك الشرق والغرب في قراراتنا الوطنية الكبيرة والصغيرة. إضافة لكون السلطة التنفيذية باتت محصورة بمجلس الوزراء، فهل تأليفه يأخذ هذه المسألة بالاعتبار؟ لناحية تشكيلة متجانسة ومتعاونة ومتفقة على استراتيجيّة لإدارة الدولة يضعها الرئيس المكلّف بالاتفاق مع رئيس الجمهورية ويكون أيّ وزير عتيد على اطلاع عليها وإبداء رأيه وتنقيحها... للوصول إلى مجلس وزراء ذي رؤية واضحة وطريق واضح نحو هدف واضح (وهنا لا يكون الوقت هدراً بعكس ما يُصرف على المحاصصة والتناتش في جسم مريض بات بحاجة لطبيب وغرفة عناية فائقة).
وفي ذلك إمكان للمحاسبة على خطّة نجحت أو لم تنجح من قبل فريق متكامل، ولكن ما يحدث فعلياً هو تنصّل الجميع (كل بدوره) من أي مسؤولية فيلقيها على سواه، وهكذا دواليك في مسلسل التعمية والتضليل. ويساعدهم في ذلك الفوضى المستشرية في الصلاحيات والمسؤوليات والقرارات والتنفيذ...
4 - فوضى في مقاربة الوضع النقدي، أكان لناحية وجود أكثر من سعر لصرف العملة، أو لناحية التضخّم غير المسبوق، أو لناحية التحويلات إلى الخارج المزاجية وغير المقوننة، أو لناحية كيفيّة التصرّف بالاحتياطي، أو مع السرّية المصرفية، فيما المطلوب كشفه هو حسابات الدولة وهي ذاتها التي وقّعت على عقد بذلك... وسوى ذلك من فوضى مالية مستشرية.
5 - فوضى في مقاربة الوضع الاقتصادي، أكان لناحية دعم موادّ عشوائية يتم تهريبها أو يستفيد منها الغني أكثر من الفقير لقدرته على تخزينها، أو يستفيد منها الأجنبي الموسر (سفارات وسواها) أكثر من اللبناني المدقع.
فتتكبّد الخزينة العامّة صرف ما بقي من العملة الصعبة وصولاً لاستنفاد الاحتياطي الإلزامي... وكل ذلك لتحقيق استقرار ظرفي يحمي المسؤولين من غضب الشارع مؤقتاً ولا يحمي مصالح الشعب المسكين.
6 - فوضى في العلاقات بين الوزارات داخل لبنان، وفوضى في علاقات أيّ منها مع الخارج إن لناحية غياب استراتيجية موحّدة، وإن لناحية تنظيم عقود مبهمة تتضمن ما يعوق تنفيذها، وإما لناحية إجراء مناقصات بما يزيد عن كلفتها الحقيقية أضعافاً مضاعفة...
أو لناحية التفلّت من أيّ مراقبة أو محاسبة في اتخاذ القرارات التي يترتب عليها صرف المال العام... ما يجعل الدولة فاشلة وعلى شفير الإفلاس، دون إمكانية مدّ سبل التواصل مع الدول المؤثّرة وذات القدرة على المساعدة إمّا خوفاً من الشرق تجاه الغرب وإما العكس...
حتى بات المواطن العادي يشعر وكأننا في سيارة تنزلق ليس فيها أيّ مكابح أو أيّ سائق، عرضة للمجهول وللتطورات التي نستقبلها مذعنين يوماً بعد يوم، فيما الدول تخطّط لسنوات وسنوات.
7 - فوضى في مقاربة المسائل الحياتية الأساسية، تستفحل مع عدم الوعي أحياناً عند شريحة ممّن يجب أن يتقيدوا بتطبيقها أو إنفاذها، من مثل:
- مسألة الصحة وجائحة كورونا والإقفال والاستثناءات...
- مسألة الدواء والمستشفيات والاستشفاء،
- مسألة الخليوي ومتفرعاتها،
- مسألة الأسعار والاحتكار،
- مسألة الحرّيات الفردية وكيفيّة التعامل مع حقوق الإنسان،
- مسألة الأمن وانفلاته في بعض المناطق والاستسلام لمنطق المصالحات العشائرية، حتى إذا لم تتم استمر الانفلات!
- مسألة الجريمة المتمادية والمتعاظمة، ولا سيما جرائم السرقة والقتل،
- مسألة السجون وكونها أصبحت مدرسة للجريمة والتمرّد بدلاً من أن تكون مدرسة لإعادة التأهيل...
- مسألة العمالة الوطنية والأجنبيّة،
- مسألة أموال الناس في المصارف، ومتفرعاتها من تغيير في شكل الاقتصاد الحرّ الذي اتصف به لبنان، إلى حرمان طلّابه من العلم في الخارج ودفعهم للهجرة إلى الخارج... 
 
ولو شئنا أن نسترسل في التعداد، لوجدنا فوضى وضياعاً في كل مفاصل الدولة، بانتفاء التخطيط الجماعي والتنسيق والانسجام بين مختلف السلطات حتى في مواقع السلطة الواحدة في ما بين بعضهم البعض، وصولاً إلى مهاجمة بعضهم البعض بدلاً من التعاون الإيجابي وكأن كلّ سلطة (أو أجزاء منها) قد أصبحت دولة، والدولة قد أصبحت بدون أيّ سلطة!
فباتت الفوضى الصفة المشتركة بين جميع مراكز المسؤولية والقرار، مع فارق بسيط بين فوضى عارمة أو فوضى متوسطة أو فوضى قيد الإنجاز!
وهذه كلها أمور إذا حدثت في ظروف خطيرة واستثنائية كمثل التي يمرّ بها لبنان، لاستوجب اعتبار القائمين بها مرتكبين للخيانة العظمى أو لخرق الدستور أو لواجبات الوظائف الوزارية والمهامّ النيابيّة...
ولكن مَنْ يحاسب؟!
وهنا قد يتساءل البعض: أليست جميع الدول تعاني من أزمات كهذه أو من بعضها؟ والجواب نعم بالتأكيد.
لكن الخشية لدينا لا تكمن في الأزمات مهما اشتدّت خطورتها، بل في كيفيّة مقاربتها وبأيّ جدّية، وبأيّ تضحية في سبيل الوطن، وبأيّ اندفاع، وبأيّ تجرّد عن مصالح شخصية أو فئوية أو مذهبية...
ونخشى أن تكون النكاية والكيد "والتمريك" هي السمات التي يتصف بها معظم المسؤولين. حتى بات ينطبق عليهم: "كالطاعن نفسه ليقتل ردفه". وما هذا التطاعن إلا عبر الدولة والوطن بما فيهما من دستور وشعب، ما يجعل من الواضح مكان الإصابات.
8 - وما يزيد الطين بلة، أنّ الفوضى لا تسود فقط في مقاربة المسائل الحياتية الأساسية للمواطن، بل المسائل الجوهرية الكيانية للوطن، من مثل:
- الاستراتيجيّة الدفاعيّة ودور السلاح...
- وجود أعداد كبيرة من غير اللبنانيين ما يشكّل نسبة غير مسبوقة في أيّ دولة، وتقارب حدود الانفجار وتغيير الشكل التاريخي لدولة لبنان.
- دور لبنان في محيطه الجغرافي ووظيفته السياسية والديبلوماسية وعلاقاته العربية والدولية...
- نظرة الدولة إلى القضية الفلسطينية في ظل متغيّرات متسارعة، وكيفيّة مجابهة هذه التطورات الخطيرة التي تؤثر بشكل مميت على الدولة ومستقبلها.
 
9 - إضافة لمسائل قد تبدو هامشيّة وهي على خطورة مستترة حتى الآن، وتتمثّل بغياب أي دور للدولة في:
- كيفيّة تمويل الأحزاب والجمعيّات والمجموعات والجماعات والكيانات وبعض الشركات أو المؤسسات الإعلامية أو الخيرية أو سواها...
- ماهية الخطابات المعتمدة في أيّ مكان معدّ للاستقبالات الجماعية (أكانت حزبية أم دينيّة أم سواها)، وهل ينشر بعضها الحقد والكراهية أو يدعو لأيّ انقاسامات أو توجهات تتناقض مع سيادة الدولة واستقلالها؟..
دون أن ننسى التأثير الهائل في بعض الأحيان لوسائل التواصل الاجتماعي، وهي في المبدأ وسائل إيجابية وراقية وتواكب الحضارة والتقدّم... إلّا أن بعضها ممن يدخل في خانة "مجهول الصاحب"، يبثّ أموراً خطيرة تنتشر بين مئات آلاف المتابعين...
فهل ثمة أيّ خطة لضبط هذا الانفلات بما يختصّ السلبيّ منه وتشجيع الإيجابي؟
ونشير أيضاً إلى أن المواطَنة ليست فعل تضحية عمياء عند المواطن العادي، بل هي أيضاً وسيلة عيش ولو في الحدود الدنيا. فإذا أدارت الدولة ظهر المجنّ لمواطنيها، فليس من المستغرب أن يأتي أيّ مجهول - معلوم من الخارج ليملأ الفراغ الذي أحدثته بهذا التخلّي. وعندها لا يعود مفيداً مطالبة الجائع والمريض والتعيس واليائس... بالتضحية في سبيل وطن لم يضحِّ مسؤولوه في سبيله، بل سوف يضطرّ المواطن حفاظاً على حياته وحياة عائلته وصحّتهم... إلى الانقياد حيث تتأمن لقمة العيش وقمقم الدواء، وفي ذلك خطورة مميتة على الوطن، وساعتها لا يكون ذنب المواطن المحتاج بل ذنب المسؤول الذي أوقعه في الحاجة (ولات ساعة مندم!).
الصورة سوداوية بدون شك، والقعر عميق، والإغاثة قد تكون منعدمة، والناس لم تعد تحتمل، والانفجار الكارثي على قاب قوسين، فهل نتمادى في الانهيار وصولاً للانتحار؟ أم نستسلم والوطن أمانة في أعناق الجميع؟ فما هي الحلول؟
 
1 - أن تتغيّر ذهنيّة المسؤولين ويتحوّلوا من التناطح إلى التعاون ومن المصلحة الخاصة إلى المصلحة العامة (وفي ذلك بعض من الطوباوية والاستحالة).
2 - أن يتمّ التغيير عبر وعي الشعب بواسطة الوسائل الديموقراطية المباحة أي الانتخابات (وهي بعيدة نسبياً، كما أنه لا دليل حاسماً على أن الوعي الوطني عند الأكثرية بات منسوبه أكبر من منسوب الانتماء المذهبي أو الحزبي أو الفئوي...).
3 - أن يتم التغيير عبر ثورة طاحنة، وفي ذلك مخاطر جسيمة قد تحوّلها إلى حرب أهلية في ظل "نقزة" وعدم ثقة بين تيارات ومجموعات وفئات... وانقسام حادّ في المجتمع.
 
4 - أن تعمد السلطة القضائية إلى تلاوة فعل نكران الجميل تجاه باقي السلطات، وعدم الانصياع إلّا إلى ثلاث صفات لا تتفرّق: الضمير، الشجاعة، المعرفة.
وعدم انتظار أيّ استقلالية قانونية (فالاستقلالية الدستورية تكفي)، والاجتماع في لقاء وطني ليومين أو ثلاثة لاتخاذ القرار باستعادة هيبة الدولة وترسيخ المحاسبة، واعتماد اجتهادات استثنائية في ظروف استثنائية تصبّ في المصلحة العامّة وتحقيق العدالة (من مثل تفسير المادّة 70 من الدستور لإباحة ملاحقة ومحاكمة رؤساء المجالس الوزارية والوزراء أمام القضاء، وابتداءً بجريمة مرفأ بيروت الكارثيّة).
واتباع أيّ سبيل ممكن لاسترجاع الأموال المنهوبة طيلة سنوات وتحت أكثر من ستار رسمي...
وكم هو مفيد لهيبة القانون عندما يرى المواطن العاديّ أنّ الوزير (وسواه) يمثل أمام القضاء كمدّعى عليه، وأنه يخشى من توقيفه الاحتياطي، وأنه يصدر بحقّه أحكام بالحبس والغرامة والتعويض...
وإنّ هذا الحلّ الراقي، قد تعترضه عقبتان:
أ - عدم تماسك الجسم القضائي في اتخاذ هذا المنحى لأسباب عديدة... وهو ما يجب على السلطة القضائية إيجاد الحلول له للحفاظ على وحدة سلطتها، كما لتأمين دورها الريادي في استعادة الدولة وهيبتها قبل انحلالها نهائياً، وعدم القبول بمقاربة الأحداث كسلطة متلقّية بل كسلطة فاعلة ومقررة في اتجاه استراتيجيّة وطنيّة واضحة...
ب - تمرّد الضابطة العدلية والعسكرية وعدم تعاونها مع السلطة القضائية وانحيازها للسلطات السياسية أو سواها... وهذا يجعل السلطة القضائية شبه مشلولة وعاجزة بحرمانها من وسائل التنفيذ، ما يفتح النقاش للحل الرابع.
4 - أن يتولّى الجيش زمام الأمور بصورة تامّة، ففي أوقات المحن العصيبة وغير المسبوقة تأتي الصرامة والحسم والقوة ولو على حساب الديموقراطية والحرية مرحلياً بنتائج ايجابيّة.
ولنا خير مثال على ذلك في كيفيّة مكافحة جائحة كورونا الدول التي اعتمدت الحزم والقوة، وفي نتائجها في الدول التي تركت الحرية بدون ضوابط من السلطة بصورة حازمة. وذلك إلى أن تستقرّ الدولة وتخرج من متاهات المخاطر الوجودية...
 
ويبقى في الختام، أنّ ثمة أموراً يجب أن تترافق مع أي حلّ من هذه الحلول ومنها:
1 - العمل الحثيث والمستدام على وعي الشعب لأنه هو مصدر التغيير كما هو مصدر كل السلطات.
2 - وضع السلطة الرابعة (أي الإعلام) بوسائلها كافة، ضوابط بين مهنيّتها وأهدافها الوطنية والإنسانية وبين اضطرارها لتأمين مصادر تمويل أو تحقيق "سكوبات" إعلامية... فالسلطة الرابعة لها أهمية قصوى في الحدّ من الجنوح إلى التسلّط، والحدّ من الفساد المستشري، إذ في فضح الفساد يكمن العلاج الأوّلي في إحراج المسؤول الفاسد وصولاً إلى ردعه عن فساده.
وقد لا يبدو من المستغرب أن تسير هذه الحلول جميعها في الوقت ذاته وحسب الإمكانية العملانيّة للتحقيق، وحسب الوعي المطلوب، أو حسب استفاقة الضمير والمعرفة بأنّ لبنان قد يصبح ذكرى مؤلمة في حال استمر الوضع كما هو.
ومن يتشبّثْ اليوم بعظمة في قِدر تغلي فقد لا يظلّ له سوى جمر الندم بعد فوات الأوان.
 
 
 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم