الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

جوسلين خويري شعلةٌ لن تنطفىء

المصدر: "النهار"
جوسلين خويري شعلةٌ لن تنطفىء.
جوسلين خويري شعلةٌ لن تنطفىء.
A+ A-
د. هدى بو فرحات معلوف
 
في ذكرى غيابها الأولى، أستلهم روح جوسلين لأكتب في جوسلين... أستلهم روح الصديقة المثال. إنّها حاضرة أبدًا في وجدان كلّ من عرفها، أو سمع عنها، ولكنّ مسيرتها الفريدة من نوعها، وشخصيّتها الفذّة جعلت بعض الناس يتساءلون: من هي جوسلين خويري؟ ما سرُّها؟
 
من هي هذه الروح المحاربة الأمازونيّة، المقاتلة الشرسة؟ هذه المرأة بالرغم من انتصاراتها ونجاحاتها وخيبات آمالها، وبالرغم من شهرتها المحليّة والعالميّة، استطاعت أن تبقى متساوية مع نفسها، متصالحة مع الذات، مبتعدة عن "أنا" الغرور والكبرياء، وفي إصغاء دائم للآخر؟
 
كيف نَجَت من أتون الحرب وأحقادها وتعقيداتها، وتسامت خطوات متراصة ثابتة نحو النور؟
 
من بيتٍ مفعمٍ بالإيمان والروح الوطنيّة، حملت جوسلين باكرًا مشعل "بروميثيوس" وسارت بروحٍ ثائرة من أجل إحقاق الحقّ وكرامة الإنسان، بفكر متبصّر، بإرادة فولاذيّة، بسعي دائمٍ نحو الحقّ: في المظاهرات تأييدًا للجيش وللقضايا العادلة، في التدريبات العسكريّة، في الحركات الطلاًبيّة، في ساحات القتال... في كلّ هذه المحطّات كانت رائدة وقائدة. تجلّت قوّتها وفرادتها في قدرتها على تجسيد القيم والمبادىء التي آمنت بها، تلقائيًّا على أرض الواقع.
 
أثبتت جوسلين خويري أنّ البطولة ليست حكرًا على الرجال. حاربت كأشدّ الرجال وبقيت أنثى، في جمالها الطبيعيّ متناسق الملامح الذي لم تمحُ المساحيق تعابيره، في أناقتها المميّزة، في أمومتها للرفيقات، في إخلاصها للأصدقاء، في محبّتها وتعلّقها بجميع أفراد عائلتها، في ذائقتها الرفيعة للفنون الراقية، في حبّها لمباهج الحياة... فرسمت في مسيرتها صورةً ناصعة للمرأة، وقد نقّتها من شوائب الضعف والتبعيّة العمياء.
 
ولكنّ الحرب في لبنان، ككل الحروب ومآسيها، ولّدت حروبًا جانبيّة وحرفت إخوة السلاح عن الهدف، ما آلَمَ جوسلين، هي التي اندفعت إليها بكلّيتها، جسدًا وروحًا، دفاعًا عن الوطن وكيانه، ليس إلّا. شعرت بالمرارة، بالأسى. القضيّة التي ناضلت من أجلها، استحوذت كلّ طاقاتها الفكريّة والجسديّة، وعندما انتهت الحرب، تساءلت ماذا بعد؟ هل تستحقّ هذه القضيّة أن نهبها كلّ وجودنا؟ لم يكن ما تشعر به من قلق وجوديّ نكرانًا لما عاشته من خبرة فريدة لا تخجل منها أبدًا، ولكنّها باتت تبحثُ عن أفقٍ أوسع، عن شيء أكثر من الأمل: إنّه الرجاء.
 
عادت إليها ليلةُ السادس من أيّار، ليلةٌ ذروةٌ في المجازفة والخطر، في تقاطعٍ بين النار والنور... حين أنقذتها العناية الإلهيّة من خطر داهم، نتائجه وخيمة عليها وعلى رفيقاتها وعلى المنطقة بكاملها، لأنّهنّ كنّ يحمينَ الخطوط الأماميّة في الأسواق التجاريّة في بيروت.
 
... ثوانٍ معدودة أمضتها جوسلين بين الحياة والموت، جعلتها تشعر بقشعريرة الوجود، وبهشاشة الحياة وعظمتها في آنٍ معًا.
 
كانت هناك، في زاوية المتراس، شمعة مضاءة تحت تمثال صغير للسيّدة العذراء!
 
هذه الإشارة من العناية الإلهيّة، كانت دعوةً إلى التجدّد بالروح القدس، هي المؤمنة منذ طفولتها، أدركت ضرورة ترسيخ هذا الإيمان وتفعيله في حياتها، فالتحقت بمعهد اللاهوت في جامعة الكسليك، ثمّ اتجهت نحو الرب وهي تسأله كما فعل القدّيس فرنسيس: "يا إلهي، ماذا تريدني أن أفعل؟" وسرعان ما استجاب لها الرب حين طلب منها الشيخ بشير، سنة 1980، أن تصبح مسؤولة عن "النظاميّات"، ففهمت الرسالة أن "أَزْهِرْ حيث أنت". انطلقت جوسلين رسولة خير وسلام ومحبّة، تحمل على مثال مريم العذراء، كلمة الله الحيّ أينما حلّت. فسرت ديناميّة جديدة في قلب الثكنات العسكريّة، وعَلَت الترانيم الملائكيّة على هدير المدافع.
 
صفت سماؤها من غيوم الحرب، أشرقت عليها شمسٌ جديدة، وهدأت أمواج أفكارها فغاصت إلى الأعماق. الوطنُ بقي هو هو مثخنًا بالجراح، وهي لم تتغيّر ثابتة في الدّفاع عنه ولكن بأسلوب جديد، حاملة رسالته إلى العالم.
 
شعّ وجهها بالسلام والطمّأنينة، وسكن قلبها فرحٌ داخليّ عميق، فقد وجدت الكنز الذي كانت تبحث عنه في قرارة نفسها، الكنز الذي أعطى معنى لحياتها: الله ليس بعيدًا عنّا، إنّه الإله الحيّ، إنّه الحياة، إنّه الراعي الصالح. وشغفتها حياة العذراء مريم: امرأة التزمت حياة المسيح، بإيمان وصمت وبساطة وخدمة، تنتظر مولودها الإلهيّ بتواضعٍ مذهل، هي التي اتّخذها الله أمًّا نهتدي بها إليه.
 
وعلى خطى مريم، التي هي أيضًا أمّ الكنيسة التي بناها الربّ "وأبواب الجحيم لن تقوى عليها"، مشت جوسلين وسدّدت خُطاها. وعلى هذه القيم، أسّست جوسلين سنة 1988 جمعيّة "اللبنانيّة-امرأة 31 أيّار"، بوعد أمام الرب والعذراء مريم أن تعمل من أجل مجتمع إنسانيٍّ أفضل ووطنٍ حقيقيٍّ يدوم. وتتابع اليوم "اللبنانيّة" عملها على تعزيز العائلة نواة أساسيّة للمجتمع، تؤازر العائلات التي تعاني صعوبات في المجالات كافةً، مشدّدةً على توعية المرأة لبناء مجتمعٍ إنسانيٍّ سليم.
 
من هذا المنطلق، تابعت جوسلين مسيرتها بقناعة أساسيّة توصّلت إليها وهي أنّ "كلّ القيم والمفاهيم تتجسّد بالإنسان، وعلى صورته يكون الوطن"، وهي تريده وطنًا ملتزمًا يحمل رسالة مقدّسة للشرق والعالم، رسالة سلام، يجد فيه المواطن نفسَه بطموحه وأحلامه وحريّته وكرامته. "فوحده الإنسان الحرّ قادر أن يصنع وطن الحريات، وحده الإنسان المحبّ قادر أن يوحّد المجتمع بالمحبة، وحده الإنسان العادل قادر أن يسنّ شريعة العدالة". هذا الوطن نواته الأساسيّة العائلة، وجوسلين تمنّت وعملت لكي تولد العذراء من جديد في قلب كلّ عائلة، في قلب كلّ امرأة في لبنان "حتّى يجتمع شمل العيلة، ويلتقي الشعب كلّه حول كلمة الحقّ"... ونقول من جديد: "أعطنا خبزنا كفاف يومنا"، حتّى نرجع نزرع الأرض من جديد سنابل وعناقيد".
 
"ستعملين كثيرًا من أجل وطنك" قالها لكِ قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، منذ ثلاثة عقود. وصدق كلامُه.
 
في كلّ بيت وطأتِ عتبتَه يا جوسلين، تركتِ لمسة حنان، وابتسامة أمل، وعطر محبّةٍ، وفي كل مكان حيث حللت، تركت زرعاً أثمر غلال أمانٍ وسلام.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم