الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

النرجسية المرضية بلاء للبلاد

المصدر: "النهار"
مرفأ بيروت (حسام شبارو).
مرفأ بيروت (حسام شبارو).
A+ A-
د. محمد فاعور
 
بعد أيام على وقوع كارثة مرفأ بيروت في آب 2020، سأل إعلامي زعيماً لبنانياً عن شعوره بعد مشاهدته الدمار والقتلى والجرحى، وعمّا إذا كان قد حفظ وجهاً معيناً أو اسماً معيناً من الضحايا أو أنه تأثر بمشهد ما. كنت أتوقع، مع كثير من المشاهدين، أن يتضمّن الجواب مشهد أحد الضحايا – ولد جريح، شيخ مقتول، امرأة تولول... لم يتذكر الزعيم سوى الدخان والمباني المتصدعة. لماذا لم تحرّك هذه المأساة، التي لم يشهد مثيلها لبنان الحديث، أية مشاعر إنسانية قوية لدى هذا الزعيم؟ وفي لقاء إعلامي مع زعيم لبناني آخر حول تفجير المرفأ، تم تجاهل حجم الكارثة الإنساني ومآسي الضحايا والمتضررين والتركيز على أولوية التحقيق.
 
إن عدم التحلي بصفة التعاطف empathy أو القدرة على الاعتراف والتفهم والإحساس بمشاعر وحاجات الآخرين هي من سمات الشخصية النرجسية المصنَّفة ضمن الاضطرابات النفسية. لقد ذكرت الجمعية الأميركية للطب النفسي في دليلها American Psychiatric Association’s Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, Fifth Edition (DSM-5, 2013) تسع سمات للشخصية النرجسية يتحلى صاحبها ببعضها أو كلها، منها غياب التعاطف. أما السمات الثماني الأخرى فهي:
 
1- يملك النرجسي إحساساً بالعظمة والأهمية الذاتية تتجلى مثلاً في تضخيم الإنجازات والمواهب. عدد من الزعماء والمسؤولين السياسيين في لبنان ودول أخرى يفخرون بانتصارات وهمية ومواهب لم يلمسها المواطن ولا المراقب الخارجي. منهم من يملك إحساساً بالعظمة والأهمية الذاتية فيجعل من تقصيره إنجازاً ومن إنجازاته المتواضعة عملاً خارقاً غير مسبوق تاريخياً. كم من البيانات والخطط الحكومية بقيت حبراً على ورق رغم ادعاء أصحابها أنها نجاحات!
 
2- هو مشغول بأوهام النجاح غير المحدود والقوة والتفوق. هناك هوس في التغني بالتفوق و"القوة" والجبروت لدى زعماء عاجزين عن تشكيل حكومة تدير شؤون المواطنين وعن تأمين القوت والدواء للأسر الفقيرة التي بلغت في لبنان أكثر من نصف السكان. كان الرئيس الأسبق للولايات المتحدة دونالد ترامب، المعروف بنرجسيته، يدّعي امتلاكه قوة هائلة و"سيطرة تامة" على الحكم.
 
3- يعتقد أنه شخص مميز وفريد. فهل من زعيم في بلادنا يعتقد خلاف ذلك؟ ثمّة إفراط في استخدام كلمة "أنا" و"نحن" (إشارة إلى الحزب أو المجموعة السياسية أو الدينية) في كلمات وخطابات الزعماء في حين يقتصدون بذكر المواطنين وأحوالهم ومشاكلهم. في تحليله لمضمون أحد خطابات الزعماء السياسيين في لبنان في أواخر عام 2020، أحصى أحد الإعلاميين ترددات مفردة "أنا" (43) و"نحن- نحنا" (24) مقارنة بمفردات أخرى برزت في الخطاب مثل "أميركا" و"لبنان" و"حزب الله" و"الفساد". ولو جمعنا عدد الترددات لمفردتي "أنا" و"نحن" لبلغت 67، وهما المفردتان الأكثر تكراراً في الخطاب على الإطلاق. ويركّز سياسيون آخرون على أنفسهم وعلى صراعاتهم السياسية من دون اهتمام يُذكر لمعاناة الناس اليومية. في الولايات المتحدة، كان الرئيس الأسبق دونالد ترامب يكثر من ذكر مفردات مثل "الأفضل" و"الأول" و"الأذكى"، ما جعل من ادعاءاته بالتميز والألمعية مادة يومية دسمة للتهكم في البرامج الكوميدية الأميركية.
 
4- يطلب إعجاباً مفرطاً من الآخرين. في لبنان، وبالرغم من الإخفاقات والإهمال المتعمد لمصالح الناس، يطلب الزعماء من أتباعهم الإعجاب المفرط والولاء الأعمى.
 
5- يتوقع بصورة غير معقولة معاملة تفضيلية من الآخرين أو امتثالاً تلقائياً لتوقعاته. لنتذكر الموقف الشعبي الرافض لتجاوز بعض أعضاء مجلس النواب اللبناني المعايير التي وضعتها وزارة الصحة للتلقيح ضد جائحة كوفيد-19، والرد العنيف من بعض النواب الذين استغلوا مناصبهم للحصول على معاملة تفضيلية. لم نشهد مثل هذا السلوك لدى السياسيين الغربيين الذين التزموا معايير ومواعيد التلقيح التي وضعتها سلطاتهم الصحية.
 
6- يستغل الآخرين للوصول إلى غاياته. لقد جسّد الرئيس الأميركي الأسبق ترامب في دعوته أنصاره لاقتحام مقر مجلس النواب الأميركي في 2021 مثلاً ساطعاً على استغلال الآخرين لإحباط عملية تثبيت انتخاب الرئيس الحالي جو بايدن.
 
7- يحسد الآخرين ويعتقد أن الآخرين يحسدونه.
 
8- يتصرف بتعجرف وعليائية.
 
تتحول النرجسية إلى حالة اضطرابية أو مرَضية عندما تصبح السمات النرجسية جامدة وغير قابلة للتكيف. إن عدم القدرة على تحمّل النقد أو الاختلاف مع الآخرين يجعل من الصعب على المرء التعاون مع الآخرين في العمل أو بناء علاقات مهنية مستدامة مع الزملاء والرؤساء. الشخصية النرجسية المَرَضية تسعى للسيطرة ولا تتقبل الآراء المناقضة لرأيها، وهي لا تكترث للآثار السلبية لتصرفاتها في الوقت الذي تصر فيه على أنها شخص مثالي. الزعماء في لبنان مهتمون أولاً بمصالحهم وحصصهم في الدولة. أما معاناة المواطنين المعيشية ومآسيهم اليومية والذل الذي يتعرضون له كلما طلبوا حاجة ضرورية فمسائل أقل أهمية. من خصائص الشخصية النرجسية المرَضية التهرب من المسؤولية ولوم الآخرين على أخطائهم مثل اعتبار أن أسباب الانهيار في لبنان خارجية. كان الرئيس الأميركي الأسبق ترامب، المصنف بالنرجسية المرَضية من قبل عدد من أطباء النفس، يحمّل مساعديه ووزرائه مسؤولية القرارات الخاطئة التي اتخذها فيلجأ إلى طردهم.
لو استعرضنا عدداً من مواقف وسلوكيات الزعماء اللبنانيين في المجال السياسي لوجدنا أنه يمكن تصنيفها ضمن سمات الشخصية النرجسية المرَضية الهدّامة، والتي تتضمن أيضاً الاضطراب النفسي المسمى جنون العظمة Megalomania.
 
ويل لأمة سلّمت زمام أمورها لقيادات ذوات شخصية نرجسية مرَضية هدّامة عاجزة عن مواجهة المصاعب الضخمة التي تواجهها أمتهم وغير عابئة بأرواح المواطنين وأرزاقهم وأموالهم وصحتهم وبيئتهم وأمنهم ورفاههم.
 
* باحث، عمل سابقاً أستاذ اجتماع ووكيل نائب رئيس الجامعة للبرامج الخارجية الإقليمية، الجامعة الأميركية في بيروت.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم