الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

السودان بين الشام والمغرب

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
سيّدة سودانية ومعاناة أحد جولات الحروب في السودان. (أرشيفية- "أ.ف.ب").
سيّدة سودانية ومعاناة أحد جولات الحروب في السودان. (أرشيفية- "أ.ف.ب").
A+ A-
"إيه لم الشامي ع المغربي!" يعلق المثل الشعبي المصري على اجتماع الأضداد، والمتباعدين.
 
أتذكره كلما تابعت الأحداث العربية، من بلاد الرافدين، الى المغرب العربي. ومن اليمن الى السودان. وعندما طُلب منّي التعليق على اجتماع الجامعة العربية الأخير حول عودة سوريا وأزمة السودان، تذكرت أياماً كانت فيها الأحداث الكبرى في عالمنا أحادية. فنكبة، ثم نكسة، ثم عبور. حرب في السويس، فأخرى في اليمن، ثم في لبنان، وأهلية طويلة في السودان. صراع مع إيران، فاحتلال للكويت، فغزو للعراق.

مصائب لا تأتي فرادى!
سلسلة الأحداث مستمرة منذ تفكك الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وتقسيم تركتها بين القوى المنتصرة، بريطانيا وفرنسا. إلا أن الفرق يكمن في "رتم" الأحداث وترابطها. فما بين كارثة وأخرى، تمر سنوات أو عقود. وتكاد لا تجتمع كارثتان في عام واحد. وهكذا، تستطيع الأمة أن تستوعب ما يجري وتعمل على مواجهته (بغض النظر عن مقياس النجاح والفشل).
 
أما اليوم، فنكاد ننام على مصيبة ونستيقظ على أخرى. نطفئ ناراً للحرب فتشتعل أخرى. نهرع الى جبهة فتستدعينا غيرها. ونحاول أن نفهم (ما) الذي، أو (من) الذي يؤجج هذه الفتن، ويشعل هذه الحرائق، ولماذا؟ وكيف نحيّد الأسباب والمتسببين؟

الاستعمار الجديد
وكأنما اتفق شياطين الدنيا على إشغالنا عن حاضرنا بماضينا. وعن احلامنا بواقعنا. وعن مسار التنمية بمسيرة الخلاف. وعن ثقافة الحياة بثقافة الموت. وليس في هذا غرابة، فأصحاب المعادلة الصفرية، ربح طرف يعادل خسارة الآخر، يرفعون شعارات التسامح والتعايش ويتهموننا بمعاداة الحضارة والتمدن، ولكنهم يطبقون مبدأ "أنا ومن بعدي الطوفان".
 
وبعد أن كانت سياسة "فرّق تسد" الاستعمارية سراً مكشوفاً، ينكرونه ولا يدّعونه، صارت سياسات "الفوضى الخلاقة" و"إعادة رسم الخرائط" و"ضبط بوصلة الدين والثقافة" معلنة يتباهى بها أصحابها، ربما لأنهم ضمنوا بعد تجربة القرن الماضي أننا لن نعي الدروس ولن نواجه المخططات، وربما لأن "من أمن العقوبة أساء الأدب".
 
نحن وهم
حقوق الإنسان عندهم مايكروسكوبية، وازدواجية، ومتناقضة. فسجن معارض أو إغلاق صحيفة في غير عالمهم اعتداء سافر على الحرية والديموقراطية، تقوم الدنيا ولا تقعد في ثورة أخلاقية كونية. أما المذابح والكوارث وجرائم الحرب التي يرتكبونها أو يحرّضون عليها ويديرونها، فوجهات نظر للنقاش والتأمل.
 
لا يحق لنا أن نبرّئ أنفسنا، فنحن في نهاية المطاف من ننفذ المخططات الشيطانية ونولغ في دمائنا، وندمّر أوطاننا. ونحن من ندير منظومات الفساد والتسلّط والمحسوبية. ونحن من نسترزق بالعمالة لهم. نتقاتل على السلطة والمال، ونتهافت على الذهب والفضة، ونسرق اللقمة من أفواه الجياع، والأمن من قلوب الخائفين والأمل من عيون الطامحين.
 
باعة الأوطان
أليس هذا ما يحدث في كل البلدان التي تعقد الاجتماعات الرأسية والأفقية لمناقشة هموم الأمة ومداواة جروحها؟ من دمّر السودان، وشق صفها، وفرّق جمعها؟ من فصلها عن مصرها، ثم جنوبها، ويسعى وراء شرقها وغربها؟ بريطانيا؟ أميركا؟ المنظمات الكنسية؟ إسرائيل؟
 
ربما كلّها... ولكن من قدم مصلحته على مصلحة بلده؟ من خان عهده وأمانته؟ من باع مصالح شعبه ووحدة وطنه من أجل كرسي؟ ومن أفقر أغنى بلد من أغنى بلاد العرب وأفريقيا، وأجاع أهله وأمرضهم، وجهّل أبناءهم، ليملأ خزانته وبطنه، ويعلّم أبناءه في مدارس سويسرا ويطبّبهم في مستشفيات إنجلترا؟
 
ديموقراطية العوام
الحقيقة المرة، أن حرب العسكر في السودان ليست من أجل الشعب، وليست لمحاربة الإرهاب، ولا لاستعادة الحكم المدني، بل هو خلاف على الغنيمة، وحرب على العرش، وسعي وراء الذهب. وتصارع الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، ليس من أجل وحدة السودان ولا استقراره وأمنه ورخائه، وآخر همّهم مصالح شعبه. فكل فريق ينتمى لمعتقد، سياسي أو ديني، سلفي أو صوفي، ويسعى لتنفيذ أجندة خيالية، ويوالي قوة خارجية.
 
والمصيبة، أن هناك الملايين لا تزال تؤمن بالشعارات الأزلية، ماركسية وإسلامية، تثور مع هذا وتلحق بذاك. ومهما اصطلت بنار الكذب والخديعة والخيانة، ومهما تكشفت الأقنعة وتبدّى ما تخفي الصدور، يكرر التاريخ نفسه، والأسطوانة المشروخة نفسها. (ألا ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار).
 
حصيلة الاستقلال
سبعون عاماً من الأخطاء المتكررة، والمتراكمة، وانقلابات عسكرية لا تحصى، وحكومات متعاقبة لا تعد، ودعم عربي ودولي ملياري. ولا توجد مدينة إلا الخرطوم، ولا تنمية إلا في الخرطوم. ولا مطار رئيسي إلا مطار الخرطوم. ومع ذلك، فالخرطوم في الخمسينيات أكثر تطوراً منها في عشرينيات الألفية الثانية. والشعب أكثر تعلماً وأمناً وثراءً وحرّية وديموقراطية تحت نير الاستعمار منه في جنة التحرير والسيادة والحكم الوطني.
 
وكأنما لم يكف هذا الفشل واليباب، فجاء المتحالفون على دارفور والمنقلبون على حكم البشير والمتفقون على تعطيل الحياة المدنية، ليدمّروا ما بقي من إنجازات المستعمر، وتعمير المغترب، واستثمارات العرب.

الفرصة الأخيرة؟
اليوم يجتمع الفرقاء في جده تلبية للمبادرة السعودية الأميركية، وتحت أنظار الشعب السوداني، والمجتمع الدولي. بعد أن اجتمعت لحلّ خلافاتهم الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومنظمة الوحدة الأفريقية ومجلس الأمن. ورغم فداحة الكارثة، لا يزال أقصى ما يعدون به إعلان مبادئ لتأكيد وحدة الوطن ورفض التدخل الخارجي، و الالتزام بهدنة جديدة بعد خرق كل هدنة سبقت، وحماية المدنيين، وتسليم المستشفيات المحتلة، وفتح ممرات آمنة بعد أن قرصنوا كل الممرات، وأرهبوا المقيم والنازح، وأغلقوا أبواب الهروب من الجحيم.
 
وماذا عن الاتفاق الإطاري؟ ماذا عن دمج قوات الدعم السريع في الجيش؟ ماذا عن تسليم السلطة والانتقال الى الحكم المدني؟
 
ومتى سيتم إنهاء الصراع، وتأمين البلد، وإقفال حدوده أمام قوافل الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة؟ ومتى سيتم إيقاف نهب الموارد وتهريبها لصالح أفراد أو جماعات؟ ومتى سيتحقق إصلاح منظومة الحكم؟ ومحاربة الفساد؟ ومتى سنناقش الدستور الجديد ورؤية البناء والتنمية؟ وكيف سنضمّد الجروح ونعيد التعمير؟ وكيف سيعود اللاجئون والنازحون، وتستعيد الحياة طبيعتها؟
 
الأولويات المؤجلة
كل هذه الأولويات لا تبدو على رأس قائمة الحاضر. كل هذا النقاش الذي أشبعه المتحذلقون بحثاً، ولاكوه جدلاً، وأشبعوه صياحاً ليس بعد على الطاولة. أما المجتمع الدولي، الذي استنزف صبره أهل الكلام والدروشة، وأصحاب المال والجاه والرتب العسكرية، فبالكاد يتسع وقته للبحث في كيفية ضمان السلام المؤقت، وتأمين الهروب الآمن، وتقديم وجبة أو قاروة ماء أو علبة دواء دون أن يُطلق عليه الرصاص، أو تنهب مخازن دعمه، أو يختطف مراقبوه ومتطوّعوه.
 
الذي جمع الشامي والمغربي، اليمني والسوري والعراقي والسوداني واللبناني والفلسطيني والليبي، وكل عربي على وجه الأرض، هو أننا لا نتعلم من التاريخ، لأننا نقرأه لنختلف عليه، ولنستذكر فتنه، ونحيي مآسيه. أما درس الأندلس عندما تقاتلنا كملوك الطوائف على العروش وتحالفنا مع الأعداء على الأشقاء، ثم بكينا كالنساء على ملك لم ندافع عنه كالرجال، فلا نعيه، ولا نستذكره، ولا نعمل على تفاديه.
 
دقت ساعة اليقظة في جدة، وآن لكل السودانيين، مدنيين وعسكريين، أن يدركوا أن جهنم الحرب هي ما ينتهي إليه طريق الجدل العقيم، والصراع اللئيم. فإما أن يتنازل الجميع من أجل الوطن، وإلا انتهينا الى المشهد الأليم لبلد عربي آخر في حالة حريق.
 
* أستاذ بجامعة الفيصل
@kbatarfi
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم