الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

هل يجب أن يشمل التدقيق الجنائي الصفقات العمومية؟... العلية لـ"النهار": ضروري لاستعادة الأموال المهدورة والمنهوبة

المصدر: "النهار"
ضروري لاستعادة الأموال المهدورة والمنهوبة (تصوير حسن عسل).
ضروري لاستعادة الأموال المهدورة والمنهوبة (تصوير حسن عسل).
A+ A-
ليس خافيا أن التدقيق الجنائي هو وليد الأزمات والانهيارات المالية التي شهدها العالم، واشتدت وطأتها في بدايات القرن الحالي، وتعرضت لها شركات عملاقة في الولايات المتحدة الاميركية وأوروبا وبعض الدول العربية، وعجز التدقيق المالي العادي والمركز عن الحؤول دونها او تبيان ملامح ظهورها. وقد أثبتت التجارب أن أسباب الانهيار كانت في معظمها إدارية مالية ومحاسبية لصيقة بغياب نهج الحوكمة واستراتيجية مكافحة وتجنّب الغش والفساد. 
 
فنتيجة عجز التدقيق المالي عن اكتشاف الغش وتجنّبه في مختلف أوجهه، وأهمها الفساد بصوره الادارية والمالية والاحتيال بأنواعه الداخلية، مثل الاحتيال المحاسبي والاختلاس والاحتيال الخارجي ومنه جرائم الانترنت الآخذة في التصاعد في الآونة الاخيرة، والاحتيال المختلط المتزامن مع الجرائم الاقتصادية والذي يسهل عمله عادة رأس الإدارة، برزت الحاجة الى خبرة في مجال البحث عن توفير الادلة، فنشأت المحاسبة الجنائية لتقديم الأدلة وفحص الفرضيات والمؤشرات للتثبت من ارتكازها الى الواقع.
 
يشرح المدير العام لإدارة المناقصات جان العلية لـ "النهار" ان "المحاسبة الجنائية تقوم على مهارات متخصصة في مجالات المحاسبة والتمويل والضرائب والتدقيق والتحليل والتحري والاستفسار وفحص واختبار المعطيات والفرضيات من منظار القانون الجنائي والمدني، في محاولة للوصول الى الحقيقة التي يمكن من خلالها تقديم رأي خبير، هو المحاسب الجنائي، فالنظرة الى المحاسبة الجنائية قائمة على أنها مزيج من تدقيق وتحقيق".
 
ولا تقتصر ميادين المحاسبة الجنائية على عالم الشركات في القطاع الخاص، بل تشمل أيضًا القطاع العام ويستفيد من خدماتها بشكل خاص مكتب التحقيقات الفيديرالي الأميركي FBI ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA ودائرة الايرادات الداخلية الأميركية IRS ومكتب المساءلة الحكومية الأميركية GAO.
ويوضح العلية أن "المحاسبة الجنائية تجمع تطبيقات التدقيق البعدي Proactive audits القائم على تقييم الرقابة الداخلية وتحديد المخاطر وفحص المناطق الحمراء، والتدقيق التفاعلي Reactive Audit الذي يتحرى عن الأنشطة غير القانونية أو المشكوك فيها للتأكد من وجود أو عدم وجود غش وتحديد الأشخاص المسؤولين وتجميع الأدلة المناسبة والمقبولة لتأييد الدعوى الجنائية. كما يشكّل التدقيق الجنائي ميدان تقاطع بين المحاسبة والقانون، والواقع يسمح باستخراج وقائع أو مؤشرات من خلال مقاربة قيود في المحاسبة، مع نص قانوني أو واقعة مادية، ولا يتوقف عند حدود المقارنة مع المستندات الثبوتية، وهو ينظر الى ما وراء الأرقام، أي التصرفات والسلوكيات التي أنتجت العمليات والبيانات المالية، فينظر المدقق الجنائي الى نظام الرقابة الداخلية بنظرة مشككة، لا فاحصة فحسب، في رؤية مفادها أنه يمكن أن يكون مدخلًا أو وسيلة للاحتيال أو الغش".
 
ما هي أهمية التدقيق الجنائي في الصفقات العمومية؟ يلفت العلية الى أن "هذه الصفقات هي الأكثر عرضة لحصول الغش والفساد والجرائم المالية (57% من الفساد في القطاع العام مرتبط بالصفقات العمومية)، لأن حجم الشراء العام يساوي 1/5 حجم الإنفاق العام في الموازنة العامة، ولأن 5% فقط من الإنفاق العام في مجال المشتريات العمومية يمر عبر ادارة المناقصات إشرافًا ورقابة، ولأن الممارسات الخاطئة أطاحت القاعدة العامة وهي المناقصة العمومية وأحلّت محلها الاتفاقيات الرضائية واستدراجات العروض المشرعة والمجزأة".
 
هل يجب أن يتزامن التدقيق الجنائي في الصفقات العمومية مع تدقيق حسابات المصرف المركزي، أو حتى قبلها؟ يوضح العلية ان "التدقيق الجنائي الشامل هو عمل خبرة فنية، يرفع تقريره بالوقائع التي أثبتها او النتائج التي توصل اليها الى قضاء مستقل يبتها بعد إعطائها التوصيف القانوني المناسب".
ولأن "مطرح" المحاسبة الجنائية او التدقيق الجنائي هو البيانات المالية المدققة، ونقطة انطلاقه ما يرد على هذه البيانات من تحفظات من خبراء التدقيق المالي، لذا يرى العلية أن "تدقيق البيانات المالية التي يتكون منها التصميم المحاسبي العام للدولة اللبنانية بفئاته السبع، يشمل المصرف الذي اقترنت تقارير المدقق الخارجي المالي لحساباته بتحفظات مهمة، وصندوق الخزينة المركزي، اذ اقترنت عمليات التدقيق التي يقوم بها ديوان المحاسبة لحساب مهمة المحتسب المركزي وقطع حساب الموازنة العامة بتحفظات مهمة ايضا، وحسابات الأعباء ومنها الصفقات العمومية والضيافة والتشريفات ونفقات السفر، حسابات الإيرادات، حسابات المتعهدين، سلف الخزينة والموازنة".
 
أما حصر عملية التدقيق الجنائي في حساب محدد كحساب مصرف لبنان مثلاً، فإنه وفق ما يقول العلية "يحدّ من مداها وفعاليتها وشموليتها، وهو أحد المبادىء التي يرتكز عليها نظام الرقابة الداخلية. فـالتدقيق الجنائي في حساب المصرف المركزي والحسابات المرتبطة به من حسابات المصارف التجارية وحساب الخزينة اللبنانية وحوالات الصرف المدفوعة من مصرف لبنان وسواها، يوصل إلى تتبّع حركة الحسابات ورصد المشبوه منها، اما من خلال نمط تكرار العمليات المالية واما من خلال قيمتها، وهذا امر مهم وضروري ومطلوب". الا انه وللذهاب أبعد وتحديد الوقائع المرتبطة بجرائم فساد وجرائم مالية، يرى العلية أنه "لا بدّ من تدقيق الحسابات الأخرى، خصوصا المشتريات وحسابات المتعهدين وسلف الخزينة والموازنة، لمعرفة قيمة المبالغ المصروفة أو المدفوعة ومقارنتها مع المشاريع أو المواد أو الخدمات المنجزة، ومقارنة المسار الاجرائي لعملياتها مع المسار القانوني والبحث والتحري عن المستفيد النهائي من هذه العمليات، وهذا هو الاهم، وهنا تجري المطابقة مع الحركة المشبوهة للحسابات المصرفية، او يتم الاستدلال الى عمليات اخرى مشبوهة من خلال تقنيتي المطابقة والتحقيق التي يقوم عليها التدقيق الجنائي".
 
ويورد العلية بعض الامثلة على عمليات احتيال لا يكتشفها التدقيق الجنائي في حسابات المصرف:
 
1- لنفترض ان الشركة (ب) قد عقدت اتفاقًا بالتراضي مع الوزارة (أ) لتوفير مستلزمات لهذه الوزارة متوافرة في السوق لدى مورّدين عدة، وأن الوزير حصل على موافقة مجلس الوزراء على هذا التعاقد بالتراضي بذريعة العجلة والسمعة الحسنة للشركة الموردة، وانه تم التعاقد مع الشركة من دون الاطلاع على بياناتها التي تثبت اهليتها للتنفيذ.
 
قامت الشركة بتوريد جزء من البضاعة موضوع العقد بنوعية رديئة، ومع ذلك تم تنظيم محضر استلام وتوقيعه وفقًا للأصول، وصرفت مستحقات الشركة من دون تطبيق الغرامات أو الجزاءات الواردة في العقد.
 
2- لنفترض أن لجنة تقييم العروض قد غيرت في معطيات عرض ليصبح مطابقًا، فربح المناقصة ونفّذ العقد وتقاضى كامل اتعابه.
 
3- لنفترض أن مديرًا عامًا قد ابتز وزيرًا أو جهة معينة وحصل منها على موقع لقاء منح عقد لأحد الموردين لا يستحقه.
 
4- لنفترض أن صفقة شراء سيارات لإحدى الوزارات راعت كل الأصول والاجراءات القانونية واستلمت السيارات وفقًا للأصول وسجلت في دفاتر الاصول الثابتة العائدة لهذه الوزارة، الا انها سلمت في الواقع لموظفين كبار لاستعمالهم الشخصي والخاص.
 
5-  لنفترض ان المورد قد وضع اثناء التنفيذ قساطل من صنع مخالف للصنع المذكور في دفتر الشروط الخاص بالصفقة، والذي صرفت النفقة في المحاسبة على اساس محضر استلام نظامي مرفقًا بفاتورة يثبته، ثم حصل عطل في المبنى ناتج عن اهتراء في القساطل، انكشفت معه حقيقة ان القساطل المستعملة هي من صنع مختلف، وذات قدرة ضئيلة جدا على مقاومة العوامل الخارجية". 
 
يبقى السؤال: هل يمكن للتدقيق الجنائي اذا اقتصر على حسابات مصرف لبنان كشف هذه العمليات الاحتيالية، وتحديد قيمة الاضرار الناتجة عنها والزام المتضررين بالتعويض عملًا بقواعد المسؤولية المدنية؟
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم