الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

العلاقة الإشكاليّة بين الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي... حقلُ ألغامٍ يومي

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-

تتفاعل في اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة بحق الصحافيين النقاشات حول قضايا الاعلام والحريات. وفي ملف أعددناه لمناسبة هذا اليوم، نتناول العلاقة الشائكة بين الاعلام ومواقع التواصل والحريات. 

 

ضاعف انتشار وسائل التواصل الاجتماعيّ قدرة الصحافة بشكل خاص والإعلام بشكل عام على الوصول إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء والمتابعين وبسرعة قياسيّة. في القرن الحادي والعشرين، يصعب تخيّل وجود إعلام من دون منصّات التواصل التي تعدّ وسيطاً أساسيّاً، بل ربّما الوسيط الأساسيّ بين السلطة الرابعة والجمهور. في هذا الإطار، قال أحد الصحافيّين من البوسنة إنّه "إذا لم يكن المقال موجوداً على "فايسبوك" فكأنّه غير موجود على الإطلاق".  

 

لهذا السبب، بات في إمكان الأنظمة القمعيّة تقييد استخدام تلك المنصّات من دون تقييد صدور الصحف على سبيل المثل، بما يعفيها إلى حدّ ما من الاتّهامات المباشرة بقمع الحرّيّات الإعلاميّة. فأسباب تحرّك الأنظمة ضدّ وسائل التواصل الاجتماعيّ أوسع من أسباب إغلاقها الصحف أو محطّات التلفزة. يمكن سرد مواجهة القيم الغربيّة "غير المحافظة" كمثل على ذلك.

 

لكن في موازاة ما تمثّله تلك المنصّات من "شريان حياة" فكريّ واقتصاديّ للإعلام التقليديّ، لا يمكن التغاضي عن العلاقة الإشكاليّة التي تجمع الطرفين. لئن كانت وسائل التواصل الاجتماعيّ قناة لنشر الإعلام على نطاق أوسع، فهي أيضاً قناة لنشر أفكار وموادّ أخرى منافسة صادرة عن أفراد غير مرتبطين بعالم الإعلام، أيّاً تكن طبيعة هذا الارتباط. العام الماضي قدّم خير دليل على ذلك.

 

في وقت بذل الإعلام التقليديّ جهداً دؤوباً لنشر المعلومات العلميّة الموثوق بها عن فيروس "كورونا"، كان أصحاب حسابات من ذوي التأثير على مواقع التواصل الاجتماعيّ قادرين على مزاحمة هذه المعلومات بأخرى مضلّلة عن أسباب الفيروس وعن "أخطار" اللقاحات الخارجة عن نطاق الأعراض الثانويّة المرافقة لها وغير المستندة إلى أيّ دراسات علميّة.

 

عن وحدة المعايير

إنّ الأخبار الزائفة والمعلومات المضلّلة والتصيّد وخطابات الكراهية وغيرها، تحتلّ حيّزاً واسعاً في هذه المنصّات حتى وإن كانت الشركات المشغّلة لها تحاول التقليل من حجم هذه الظواهر قدر الإمكان. لكنّ المشكلة تبدأ حين تكون بعض المواد المنشورة خارجة عن إمكانيّة التصنيف الواضح أو حين تكون قابلة لتحمّل آراء "قيميّة" متناقضة تجاهها. على سبيل المثال، وحيث إنّ هنالك إجماعاً حول تصنيف تنظيمات مثل "داعش" و"القاعدة" وغيرهما على لائحة الإرهاب، ثمّة تنظميات أخرى غير خاضعة لشموليّة هذا التصنيف.

 

يمكن التفكير مثلاً بالمجموعات الكرديّة المقاتلة في سوريا والمرتبطة أقلّه بحسب تركيا بـ"حزب العمّال الكردستانيّ". الأخير مصنّف على لائحة الإرهاب في تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لكنّ "حزب الاتّحاد الديموقراطيّ" في سوريا والمرتبط بالحزب-الأمّ ليس كذلك. وهذا المثل ليس نظريّاً. في 16 تشرين الأوّل 2019، ذكر موقع "ذا سابمارين" الإيطاليّ أنّ صفحته على فايسبوك خضعت للتقييد بسبب دعمه السوريين الأكراد في وجه التوغّل التركيّ.

دفع ذلك الكاتب في موقع "ميديوم" غابريال غروشياتا إلى طرح السؤال الآتي: "المواقع الإلكترونيّة الإخباريّة تعتمد على الشبكات الاجتماعيّة. ماذا لو لم تكن الشركات الخاصّة تحبّ تقاريرك؟" السؤال نفسه يحمل رسالة مبطّنة: الشركات الخاصّة تتحرّك بناء على "العواطف" لا على معايير موضوعيّة موحّدة.

 
حساب ترامب 

ينقل هذا السؤال المراقبين إلى مثل حديث آخر. ألغى "فايسبوك" و"تويتر" (الأوّل بشكل موقّت والثاني بشكل دائم) حسابات الرئيس السابق دونالد ترامب على صفحاتهما لـ"حضّه على العنف" والتسبّب باقتحام مبنى الكابيتول في 6 كانون الأوّل، بحسب اتّهامات الشركتين.

انتقد مناصرو ترامب "ازدواجيّة المعايير" لدى الشركة لأنّها لم تعلّق حساب المرشد الإيرانيّ الأعلى علي خامنئي بالفارسيّة على الرغم من أنّه "يحضّ أكثر على العنف". وسبق أن علّقت الشركة حسابات خامنئي بسبب خرقه قواعد الشركة لكن لفترة موقّتة، علماً أنّ "تويتر" و"فايسبوك" نفسيهما محظوران في إيران. بموازاة ذلك، إن كان الحضّ على العنف سبباً بديهيّاً لتعليق الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعيّ فالتدقيق بمثيرات هذا العنف مسألة حسّاسة.

 

"العنف" و"الإهانة"

تخضع خطابات الكراهية في الولايات المتحدة لحماية التعديل الدستوريّ الأوّل بصفتها جزءاً من كلّ. كي لا يكون بإمكان الحكومات التذرّع بخطاب الكراهية لكمّ الأفواه، وفّر الدستور "حماية واسعة للتعبير العدوانيّ والمثير للاشمئزاز والكراهية" طالما أنّه "لا يحرّض على عمل غير قانونيّ وشيك أو تهديدات حقيقيّة" بحسب "معهد منتدى الحرية". كيفيّة التمييز بين الكلمات أو المقالات التي تحرّض أو لا تحرّض على أعمال العنف أو أي أعمال غير قانونيّة ليست سهلة دوماً.

 

والمضايقات أيضاً، طالما أنّها لا تحمل تهديداً حقيقيّاً، محميّة بموجب الدستور الأميركيّ حتى لو كانت "مهينة". حتى إنّ مفكّرين مثل جوردان بيترسون يرون أنّه من أجل "التمتّع بالقدرة على التفكير، فعليك المخاطرة بأن تكون مسيئاً" للآخرين. لكنّ إمكانيّة التعامل مع ما يمكن أن يكون "إهانة" أو "إساءة" يختلف من مجتمع لآخر ومن شخص لآخر حتى داخل المجتمع نفسه.

 

في هذا الإطار، عادة ما يملك الإعلاميّون القدرة على تلمّس الخيط الرفيع الفاصل بين "التعبير عن الرأي" و"الحضّ على العنف" وحتى على تلمّس ما إذا كان هنالك من "مرحلة وسيطة" تدعى "الإهانة" و"الإساءة" من دون أن تستدعي ردّ فعل عنفيّاً.

ويصعب القبول برقابة من الشركات المشغّلة لمنصّات التواصل الاجتماعيّ على الإعلاميّين أو الصحافيّين الأكثر فهماً لخصائص البيئات التي يعملون فيها. يضاف إلى ذلك، أنّ منصّات التواصل الاجتماعيّ، وخصوصاً "فايسبوك"، تتعرّض لانتقادات كثيرة في الآونة الأخيرة. وهذا يفقدها شرعيّة فرض الرقابة على المحتوى. ولا تصدر هذه الانتقادات عن اليمين الشعبويّ وحسب.

 

"من المعنى إلى اللامعنى"

ماريا ريسّا هي صحافيّة فيليبينية بارزة نالت مؤخّراً جائزة نوبل للسلام بالشراكة مع الصحافيّ الروسيّ دميتري موراتوف.

 

اعتادت ريسا محاربة "المستبدّين" لكنّها تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مواجهة "فايسبوك" بحسب تقرير لمنظّمة "ريست أوف وورلد". وهي ذهبت إلى حدّ القول إنّ تلك "المنصّة نفسها منحازة ضدّ الوقائع. إنّها منحازة حقاً ضدّ الصحافة. لقد حجّمت منصات التواصل الاجتماعيّ المعنى إلى انعدام المعنى حتى حدود الذرّة. لقد فكّكت بالكامل الإطار".

 

مع ذلك، هي لم تيأس من إمكانيّة إصلاح فايسبوك قواعده. وتوضح المنظّمة أنّ آراء ريسا مدعومة ببحث أكاديميّ متزايد يظهر أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ غالباً ما تكافئ الرسائل العاطفيّة عوضاً عن التحليل المنطقيّ وتحوّل المستخدمين إلى المحتوى الذي يعزّز قناعاتهم الموجودة وتنشر الأكاذيب بسرعة أكبر من نشر الحقيقة.

 

مدى مساهمة "فايسبوك" ومنصّات أخرى في ما تقوله ريسّا (وآخرون) قد لا يكون قابلاً للتحديد. فالإنسان كائن "عاطفيّ" بالدرجة الأولى وهذا التكوين هو جزء من مسار تطوّريّ بعيد المدى، بحيث إنّ الانتباه أوّلاً إلى المحتويات المثيرة للجدل والانقسام جزء من طبيعة البشر.

قدرة المنصّات على عكس هذه الطبيعة الإنسانيّة ليست كبيرة. حتى مع افتراض عدم تأدية المنصّات دوراً في تعزيز القناعات الموجودة سلفاً، سيظلّ معظم الناس يتصفّحون المواقع التي تحاكي تطلّعاتهم وآراءهم بالدرجة الأولى – هذا إن كان هناك من درجة ثانية في الأساس.  

 

تقديم الوقائع سهلٌ... نظريّاً

واجهت ريسّا حملة من حكومة الرئيس رودريغو دوتيرتي الذي ساعدت المعلومات المضلّلة في وصوله إلى الرئاسة سنة 2016، وهي السنة نفسها التي شهدت فوز ترامب بالرئاسة والتصويت على خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي (بريكست). لعلّ المعلومة الأكثر تضليلاً التي انتشرت قبيل تنظيم استفتاء "بريكست" هو أنّ البريطانيّين سيستعيدون قرابة 480 مليون دولار يدفعونها أسبوعيّاً للاتحاد الأوروبي ويحوّلونها إلى خزانتهم لو خرجوا من الاتّحاد. تبيّن لاحقاً خطأ هذه المزاعم التي نشرها مؤيّدو الخروج، إذ بلغ تقريباً صافي المدفوعات البريطانيّة إلى بروكسل نصف ما ادّعته هذه المزاعم. ما كان لافتاً خلال تلك الحملة أنّ الإقبال على محرّك البحث "غوغل" لشرح "بريكست" بلغ ذروته بعد انتهاء الاستفتاء.

 

وهذا دليل آخر إلى أنّ غالبيّة الناس تتّخذ قرارتها سلفاً ثمّ تذهب للاستقصاء الذي غالباً ما يرتدي طابع البحث عمّا يؤكّد الفرضيّة/الحقيقة الأساسيّة. بمعنى آخر، إنّ تقديم المعلومات الصحيحة والموضوعيّة قد يبدو سهلاً على المستوى النظريّ، لكنّ قدرة المستهلك على تلقّيها أوّلاً ثمّ تمحيصها قبل استبدال معلوماته القديمة بها أمر صعب. لكنّ ذلك لا يعفي منصّات التواصل الاجتماعيّ من مسؤوليّة استغلال عواطف الإنسان لتمرير غايات تجاريّة محتملة. بمعنى آخر، يبدو أنّ ما قالته ريسّا بحق "فايسبوك" صحيح إلى حدّ بعيد إذا ما أمكن أخذ السلسلة التي أعدّتها "وول ستريت جورنال" عن المنصّة الشهر الماضي بالاعتبار.

 

صداع زوكربيرغ

في إحدى حلقات هذه السلسلة، بيّن تقرير الصحيفة بناء على وثائق من داخل الشركة كيف أدّى تغيير في الخوارزميّات من أجل تقليل الاستهلاك المحايد للفيديوات على "فايسبوك" إلى نتائج عكسيّة. كان الهدف من وراء تلك المبادرة ("تفاعلات المستخدم ذات المعنى" أو اختصاراً "أم أس آي") جعلَ أجواء المنصّة "أكثر صحّة" عبر زيادة التفاعل بين الناس عوضاً عن مجرّد مشاهدة فيديوات سياسيّة ونشرها. لاحظ براد بارسكال الذي كان يرأس فريق الاستراتيجية الرقمية لحملة ترامب بروز تغيّرات على الخوارزميّات أواسط 2017. وقال للصحيفة إنّ كلمة "صحّيّة" كانت غطاء لجملة "نحتاج إلى تقليص انتشار فيديوات ترامب والمحافظين".

 

وأتت تحذيرات عدّة، من داخل وخارج المنصّة، بشأن تعزيز الخوارزميّات الجديدة لانتشار المحتوى الأكثر إثارة للانقسامات والغضب بما أنّ هذا النوع من التفاعلات هو الأكثر قدرة على الانتشار. وراسل موقع "بازفيد" موقع "فايسبوك" قائلاً إنّ فريق التحرير "شعر بالضغط لصناعة محتوى سيّئ" و"أخبار مزعجة للغاية". وحين اقترح المسؤولون في "فايسبوك" القيام بإصلاحات لتخفيف نشر السلبيّة على المنصّة، ردّ المدير التنفيذيّ للشركة مارك زوكربيرغ بالقول إنّه لم يكن ينوي إدخالها إذا كانت ستؤثّر على تفاعل المشتركين، بحسب الصحيفة. وبحسب جايمس بارنز، موظف سابق في "فايسبوك"، أملت المنصّة في أن يؤدّي إعطاء الأولويّة للتفاعل إلى تقريب الناس، لكنّها باتت أكثر تعقيداً من قدرتها على فهم كيف أمكن لهذه التغييرات أن ترتدّ سلباً.

 

وجاءت شهادة مسرِّبة الأسرار في المنصّة فرنسيس هوغن أمام الكونغرس لتزيد الصداع بالنسبة إلى الشركة، حين قالت إنّ زوكربيرغ فضّل تجاهل الإصلاحات المقترحة كي لا تؤثّر على خطة "أم أس آي" وبالتالي على الأرباح. لكنّ الأخير ردّ بشكل مطوّل على هذه الاتّهامات واصفاً إيّاها بأنّها خالية من المنطق، بما أنّ أرباح الشركة تأتي من الإعلانات التي يشترط أصحابها عدم نشرها إلى جانب محتوى مؤذٍ.

 

الكونغرس غير متّفق

يبدو أنّ الخوارزميّات الجديدة تطال النشاطات السياسيّة على المستوى العام، حيث جعلت التغييرات من النقاش السياسيّ داخل بولونيا "أبغض" بحسب مراسلات الأحزاب البولونية إلى المنصّة وفقاً لـ"وول ستريت جورنال". أوروبا الشرقية والوسطى وإسبانيا لم تكن بعيدة من هذه التأثيرات، وكذلك تايوان والهند... وعلى الأرجح دول أخرى.

 

لكنّ الرقابة السياسيّة على "فايسبوك" ليست سهلة هي الأخرى كما أوضح ذلك مؤخّراً عالم البيانات السابق في تلك المنصّة رودي لندسي. فهو أشار في "نيويورك تايمس" إلى أنّ الجمهوريّين والديموقراطيّين غير قادرين على الاتّفاق حول نوعيّة المشكلة: يقول الديموقراطيون إنّها الترويج المستمرّ للمعلومات المضلّلة لكنّ الجمهوريّين يرون أنّها كامنة في الرقابة والانحياز.

 

وسط كلّ هذا المناخ المتأزّم، قد يكون الإعلام الحلقة الأضعف. فلا هو قادر على التصدّي لـ "عدوى" انتشار الأخبار السلبيّة والمثيرة للغضب طالما أنّ الكونغرس والأحزاب نفسها عاجزة عن ذلك، ولا هو قادر على فصل نفسه عن وسائل التواصل الاجتماعيّ بديناميّاتها السلبيّة. اجتياز حقل الألغام هذا جهد يوميّ للإعلام التقليديّ، وكذلك للناشطين في مجال حرّيّة التعبير.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم