الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

حرب أوكرانيا بين نظرتي فوكوياما وكيسنجر

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
قصف أوكراني على موقع عسكريّ روسيّ قرب باخموت، كانون الأول 2022 (أ ب)
قصف أوكراني على موقع عسكريّ روسيّ قرب باخموت، كانون الأول 2022 (أ ب)
A+ A-

أثار وزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق هنري كيسنجر عاصفة من الجدل في أيّار 2022 حين اقترح خلال منتدى الاقتصاد الدولي تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها كمقدّمة لإحلال السلام. وحثّ كيسنجر على تجنّب محاولات إلحاق الهزيمة بروسيا وتهميشها ملمّحاً إلى أنّه قد يتعيّن على أوكرانيا القبول بالخسائر التي منيت بها منذ 2014 لإنهاء الحرب.

لطالما دعا كيسنجر إلى اعتناق أوكرانيا شكلاً من أشكال الحياد كي تكون "جسراً بين روسيا وأوروبا". ومع أنّه اعترف بأنّ "تلك الفرصة... لم تعد موجودة بالطريقة نفسها،... لا يزال بالإمكان تصوّرها كهدف نهائي." وقال حينها إنّ "الخطّ الفاصل (بين أوكرانيا وروسيا) يجب أن يعيد الوضع السابق" وفقاً من منظور "مثاليّ". وهذا يعني ضمناً ممارسة روسيا سلطتها على المناطق التي كانت قد سيطرت عليها في دونباس والقرم.

 

"لأوّل مرّة في التاريخ الحديث"

عاد كيسنجر ليتراجع عن قسم مهمّ من أفكاره. في مقال نشرته مجلّة "سبكتيتور" أواسط كانون الأوّل 2022، كتب كيسنجر أنّ أوكرانيا "أصبحت دولة رئيسيّة في وسط أوروبا لأوّل مرّة في التاريخ الحديث. بمساعدة حلفائها وبإلهام من رئيسها، فولوديمير زيلينسكي، أحبطت أوكرانيا القوّات التقليديّة الروسيّة التي كانت تتغلّب على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية... طرحت هذه العمليّة نقاشاً حول القضايا الأصليّة المتعلّقة بعضويّة أوكرانيا في الناتو. اكتسبت أوكرانيا واحداً من أكبر الجيوش البرّيّة وأكثرها فاعليّة في أوروبا، مجهَّزاً من قبل أميركا وحلفائها." وتابع: "يجب أن تربط عملية السلام أوكرانيا بحلف شمال الأطلسيّ، بصرف النظر عن طريقة التعبير عنه. لم يعد البديل (المتمثّل بـ) الحياد ذا معنى، خصوصاً بعد انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو." وعاد كيسنجر ليؤكّد أفكاره الجديدة منذ أيّام قليلة ضمن فاعليّات منتدى الاقتصاد الدوليّ الحاليّ الذي تستضيفه دافوس.

قبول كيسنجر بانضمام أوكرانيا إلى الناتو فكرة تكاد تكون "ثوريّة" بالنسبة إلى ديبلوماسيّ شدّد في 2014 على وجوب عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وقد أكّد حينها موقفه الأساسيّ الذي طرحه سنة 2007 حين وُضعت هذه القضيّة على جدول أعمال بروكسل. ما اعتُبر يوماً أنّه صاعق تفجير لحرب روسيّة ضدّ أوكرانيا أصبح، بنظر كيسنجر على الأقلّ، نوعاً من الضمانة الأمنيّة المستقبليّة بالنسبة إلى كييف، وربّما أبعد. إشادة الديبلوماسيّ الأسبق بقوّة الجيش الأوكرانيّ تعني أيضاً أنّه سيمثّل قيمة عسكريّة مضافة إلى الناتو.

لقسم كبير من صنّاع القرار في بروكسل وجهة نظر متحفّظة من تحليل كيسنجر المستجدّ. من غير المتوقّع أن يقبل الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون بفكرة كهذه، هو الذي قال مؤخّراً إنّ روسيا بحاجة إلى ضمانات أمنيّة. وللمستشار الألمانيّ أولاف شولتس تحفّظ كبير تجاه هذه النظرة، إذ يروّج لعودة العلاقات مع روسيا بعد نهاية الحرب، كما يتردّد في إرسال دبّابات "ليوبارد 2" إلى أوكرانيا. لكنّ كلام كيسنجر يعطي شرعيّة إضافيّة لوجهة النظر المتشدّدة تجاه روسيا في وسط وشرق أوروبا.

 

دقّة فوكوياما... منذ 10 آذار

على ضفّة موازية، كان العالم السياسيّ فرنسيس فوكوياما يؤكّد في وقت مبكر (4 آذار 2022) أنّ الغرب بات ينظر إلى روسيا لا كدولة ذات مظالم مشروعة من توسّع الناتو، بل كدولة انتقاميّة تريد تغيير النظام الأوروبّيّ بالكامل.

بينما أعرب كيسنجر في أيّار عن خشية من انفلاش الحرب إلى خارج الحدود الأوكرانيّة، كان فوكوياما أكثر جرأة في توقّع خسارة روسيا علماً أنّ الحرب كانت لا تزال في بداياتها. ففي 10 آذار، توقّع أن تواجه روسيا "هزيمة كاملة" في أوكرانيا. حينها، أشار فوكوياما أيضاً إلى احتمال أن يكون انهيار القوات الروسيّة بشكل مفاجئ وكارثيّ. إلى حدّ ما، صحّ هذا الاحتمال بالنسبة إلى الانسحاب العسكريّ الروسيّ السريع في خاركيف وبشكل أقلّ في خيرسون.

على الرغم من الانعطافة في وجهة نظر كيسنجر تجاه اكتساب أوكرانيا عضويّة الناتو، وهي انعطافة حتّمتها الظروف الميدانيّة، تبقى نظرة كيسنجر الأوسع إلى روسيا ثابتة إلى حدّ كبير. لا يزال كيسنجر يصرّ على عدم جعل روسيا "عاجزة" بفعل الحرب لأنّها حقّقت "مساهمات حاسمة في التوازن الدوليّ" لأكثر من 500 عام. ولفت أيضاً إلى أنّ الانتكاسات العسكريّة لموسكو لم تلغِ نفوذها النوويّ، وحتى في حال العكس، حذّر كيسنجر من أنّ تفكّك روسيا سيؤدّي إلى صراع داخليّ بين مجتمعاتها وسيفاقم خطورةَ ذلك وجودُ آلاف الأسلحة النووية. مع ذلك، هو يؤيّد مواصلة الولايات المتحدة دعم أوكرانيا عسكرياً وفرض العقوبات الاقتصاديّة على روسيا حتى يحين موعد التسوية. بالمقابل، يعدّ فوكوياما من أبرز مؤيّدي إلحاق الهزيمة بروسيا. فمن دون هذه الهزيمة، ما من مجال للتوصّل إلى حلّ سلميّ بحسب رأيه، لأنْ لا وجود أصلاً لحلّ وسط يرضى به الطرفان.

يعدّ فوكوياما من بين قلّة تجرّأت على إعلان فشل روسيا بعد أيّام قليلة على انطلاق الغزو. بالمقابل، كان كيسنجر أكثر حذراً خلال الأشهر القليلة الأولى. لكنّه أعرب عن رأي مشابه أواخر أيلول في مؤتمر لـ"مجلس العلاقات الخارجيّة". فهو قال إنّ "روسيا، بطريقة ما، قد خسرت الحرب بالفعل." وأضاف أنّ "قدرة (موسكو) على تهديد أوروبا عبر هجوم تقليديّ تمّ تخطّيها الآن بشكل يمكن برهنته."

 

كيسنجر والتاريخ الروسيّ-الأوكرانيّ

في كتاباته السابقة، رأى كيسنجر مراراً أنّ أوكرانيا جزء من تاريخ وهويّة روسيا. سنة 2014، لفت في صحيفة "واشنطن بوست" إلى أنّ أوكرانيا ظلّت تحت حكم أجنبيّ بشكل أو بآخر منذ القرن الرابع عشر و"قادتها لم يتعلّموا فنّ التسوية". وتوجّه إلى الأوروبّيّين منبّهاً إيّاهم إلى أنّه "بالنسبة إلى روسيا، لا تستطيع أوكرانيا أن تكون مجرّد دولة أجنبيّة" بما أنّ التاريخ الروسيّ بدأ "في ما كان يسمّى كييفان-روس. الديانة الروسيّة انتشرت من هناك. أوكرانيا كانت جزءاً من روسيا طوال قرون، وتاريخهما كان متشابكاً قبل ذلك الحين."

ثمّة دليل إلى أنّ كيسنجر لم يعد يرى في هذا التحليل ما يبرّر بقاء أوكرانيا في الفلك الروسيّ. مجدّداً، العامل العسكريّ يبدو الطاغي في المعادلة الجديدة. لو كانت معادلة التاريخ وحدها هي التي تحكم العلاقات الروسيّة-الأوكرانيّة لكان الشرق الأوكرانيّ على الأقلّ قد قبل الانضمام إلى روسيا من دون مقاومة. لم تكن خاركيف ذات الغالبية السكّانيّة الناطقة بالروسيّة وحدها التي واجهت روسيا عسكرياً. حتى منطقتا لوغانسك ودونيتسك لم تكونا خاضعتين بالكامل للانفصاليّين الموالين للروس قبل 24 شباط. أسباب كثيرة تفسّر عدم تعاطف دونباس مع روسيا بالنطاق الذي توقّعته الأخيرة، من بينها، وربّما أبرزها، انعدام الأمان حتى بالنسبة إلى القادة الانفصاليّين (منذ 2014)، وعدم قدرة الحكومات المحلّيّة على فرض نمط اقتصاديّ منتج، هذا إن لم تكن قد ساهمت في توليد فجوة متصاعدة بين مستويي معيشة الشرق والغرب الأوكرانيّين.

 

لا يزال مؤمناً بذلك

كان تصوّر فوكوياما عن سيرورة الحرب في أوكرانيا أقرب إلى الدقّة من تصوّر كيسنجر. مع ذلك أبدى الأخير مرونة كبيرة عبر تكييف نظرته مع الوقائع الميدانيّة والسياسيّة المستجدّة، بعكس مفكّرين آخرين في العلاقات الدوليّة وأبرزهم جون ميرشايمر الذي يواصل اعتبار أوكرانيا مجرّد مساحة تخيف موسكو بفعل قابليّتها للانضمام إلى الناتو. على العكس من ذلك، يعتبر كيسنجر أنّ هندسة السلام المقبلة يجب أن تضمن "حرّيّة أوكرانيا" دولة متمتّعة بالشخصيّة المعنويّة، حتى وإن كان يدعو أيضاً إلى إشراك روسيا في الهندسة. ومن قادة أوكرانيّين "لم يتعلّموا فنّ التسوية" إلى إبداء إعجابه بالرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي، لا شكّ في أنّ كيسنجر اجتاز شوطاً كبيراً في تعديل جزء من وجهة نظره.

لا يزال في جعبة الحرب الكثير لتكشفه، والمفاجآت باتّجاه أو بآخر واردة. صحيحٌ أنّ الروس سيطروا مؤخّراً على معظم مدينة سوليدار (12 كيلومتراً مربعاً)، مع صراع داخليّ بين الجيش وفاغنر حول من يستحقّ الفضل، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ أوكرانيا استعادت نحو نصف الأراضي التي احتلّتها روسيا منذ شباط. لذلك وبحسب المعطيات الحاليّة، تتمتّع أوكرانيا باليد العليا. وهذا ما لا يزال فوكوياما مؤمناً به... وبشدّة.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم