السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

خصومُها وقودُها... الترامبيّة باقية وتتأجّج

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
رسم كاريكاتوري لترامب بعد خسارة الانتخابات (أ ف ب).
رسم كاريكاتوري لترامب بعد خسارة الانتخابات (أ ف ب).
A+ A-
"القوّة الحقيقيّة في السياسة، ليست المنصب التي تحتفظ به، سيخسر الجميع ذلك في نهاية المطاف. إنّها ليست حتى السياسات التي تطبّقها، إذ يمكن قلبُها، وهذا ما يحصل عادة. القوّة الحقيقيّة هي عندما تغيّر طريقة تفكير الناس. يدوم هذا أبعد بكثير من فترة بقائك في المنصب، أبعد بكثير من حياتك"... المعلّق السياسيّ البريطانيّ ستيف هيلتون خلال دفاعه عن ترامب.


انطلاقة كاسحة
الترامبيّة باقية. لم يتأكّد هذا الاستنتاج بعد هزيمة الرئيس الحاليّ بفارق ضئيل. توصّل المتابعون إلى هذه الخلاصة حتى قبل أن يفوز ترامب بولايته الأولى. منذ انطلاق الانتخابات التمهيديّة الرئاسيّة لسنة 2016، أطاح ترامب خصومه الجمهوريين التقليديّين، الواحد تلو الآخر. عائلة بوش الرئاسيّة نفسها كانت ضحيّة لصعوده مع سقوط جيب أمامه في تلك المرحلة. وبعدما هَزم ترامب جميع خصومه، تبقّى السيناتور تيد كروز كأمل وحيد لـ "المؤسّسة" الجمهوريّة كي يقف في وجهه. فجأة، أعلن الأخير انسحابه من السباق الرئاسيّ ممهّداً الطريق أمام ترامب للحصول على الترشيح الحزبيّ. والبقيّة معروفة.


مصطلح "الترامبيّة" نفسه ظهر حتى قبل حسم ترامب ترشيح الحزب الجمهوريّ له. في كانون الثاني 2016، درس الباحث في "معهد المشروع الأميركيّ" نورمان أرونشتاين هذه الظاهرة موضحاً لماذا أخطأ المراقبون حين توقّعوا خسارة ترامب سريعاً خلال المراحل الأولى من الانتخابات التمهيديّة. نقصُ الخبرة السياسيّة واللباقة الاجتماعيّة لم يحُل دون فوز ترامب. رأى قسم كبير من الجمهور الأميركيّ بما فيه غير الحزبيّ، أنّ فظاظته سلاحٌ ضدّ "المؤسّسة" التي أنتجت شرخاً كبيراً بين واشنطن والطبقة الوسطى. التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة نفسُها كانت تتمخّض في أوروبا أيضاً. الفصل بين "بريكست" وفوز ترامب أضحى مستحيلاً في المعادلة المتبلورة منذ سنوات.


تزخّمت الترامبيّة مع دخول ترامب الأبيض في كانون الثاني 2017. يدين الترامبيّون بذلك للديموقراطيّين وحلفائهم بشكل كبير. كان من المفترض أن تدخل الترامبيّة في تناقض مع آليّات الحكم البيروقراطيّة. لكنّ الديموقراطيّين عرضوا خدماتهم المجّانيّة للتخفيف من هذا الصدام. في كثير من المراحل، لم يستطع ترامب الطلاق مع "المؤسّسة" فاضطرّ إلى تعيين مسؤولين سابقين في وزاراته كما حصل مع جايمس ماتيس، والتخلّي عن آخرين عيّنهم من خارجها، مثل إقالته لستيف بانون ككبير المخطّطين الاستراتيجيّين في البيت الأبيض. لم يكن غياب الاستقرار في إدارة ترامب مرتبطاً فقط بمزاجيّة الرئيس. الصراع بين تعيين "أصحاب الخبرة" القادرين على مساعدته من جهة، ووضعِ حدّ أمام دفعهم إلى إصدار قرارات غير شعبيّة من جهة أخرى، أدّى قسطه في غياب الاستقرار هذا.


تأرجحٌ لم يحبِط مساره
بدا ترامب حازماً في مسألة الخروج من الاتّفاق النوويّ. لكنّه بدا مكبّلاً أيضاً بالمستشارين والوزراء الذين حذّروه من مغبّة فعل ذلك. لم يستطع ترامب تنفيذ رغبته إلّا بعدما عيّن شخصاً آخر من "المؤسّسة" في رئاسة مجلس الأمن القوميّ الأميركيّ: جون بولتون. بصرف النظر عن عدم إمكانيّة تصنيف الأخير في خانة السياسيّين التقليديّين، لكنّ خبرته في العمل ضمن عدد من الإدارات وإصراره على تمزيق الاتّفاق النوويّ، خوّلاه حجز مقعد أساسيّ في البيت الأبيض. "رجل الحروب التي لا تنتهي" يصبح اليد اليمنى للرئيس الذي يريد إنهاء تلك الحروب. اتّفقا على إيران واختلفا في أفغانستان. خرج بولتون من البيت الأبيض ووضع كتاباً قبل أشهر قليلة من الانتخابات يظهر "عدم أهليّة" ترامب لتولّي الرئاسة.


ضِمْنَ هذا التأرجح بين "المؤسّسة" و "الشعبويّة" خطّ ترامب مساره المتعرّج بثقة. تمكّن من إعادة التفاوض على "نافتا" والخروج من اتّفاقيّة باريس للمناخ والاتّفاق النوويّ الإيرانيّ ومعاهدة القوى النوويّة المتوسّطة المدى مع روسيا. كذلك، خاض حرباً تجاريّة مع الصين انتهت بتوقيع المرحلة الأولى من اتّفاقيّة جديدة. وفي رسالة احتجاج على "محاباتها" للصين، سحب ترامب بلاده من منظمة الصحة العالميّة. خاض ترامب مفاوضات مع كوريا الشماليّة بدأت بتوتّر ووعيد باستخدام "النار والغضب" وانتهت بقمّة ديبلوماسيّة مع الزعيم الكوريّ الشماليّ كيم جونغ أون. سلكت القرارات الخارجيّة مساراً معكوساً، من الأعلى إلى أسفل، فحجّم الديبلوماسيّة التقليديّة.


في الصراع العربيّ-الإسرائيليّ، انفصلت الإدارة الحاليّة عن رؤية الإدارات السابقة. هذا الانفصال، معطوفاً على متغيّرات سياسيّة أخرى، انتهى بتوقيع اتفاقات سلام بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان وإسرائيل، مع حديث عن دول إضافيّة قد تستقلّ قطار التطبيع. في عهد ترامب، حقّقت الولايات المتّحدة نموّاً غير مسبوق ووصلت أرقام البطالة إلى مستويات قياسيّة لم تشهدها البلاد منذ أواخر الستينات. كلّ ذلك، على الرغم من الحملة الإعلاميّة والنيابيّة ضدّه في ملفّات التواطؤ المفترض لحملته مع روسيا واستخدام نفوذه في أوكرانيا لتحقيق مصلحة شخصيّة.


المعارضة تعترف
ليس الإعلام السائد والمعارض بغالبيّته لترامب بريئاً من استمرار "الترامبيّة" حتى بعد هزيمته. قليلاً ما فتحت تلك المنصّات هواءها لمحلّلين أعطوا ترامب إشادة حيث توجّبت. حين أطلق الرئيس عبارة "النار والغضب" اتّهمه معارضوه بجرّ الولايات المتّحدة إلى حرب نوويّة. وحين هدأت الأزمة واجتمع ترامب مع الزعيم الكوريّ الشماليّ قالوا إنّه أعطى الشرعيّة لديكتاتور. بعدما نشرت صحيفة "نيويورك بوست" تقريراً عن استخدام بايدن نفوذه لصالح نجله هانتر في دول عدّة حول العالم، حدّ "تويتر" و"فايسبوك" من انتشار التقرير لأنّه "غير موثوق به". لكنّهما لم يفعلا ذلك حين كانت تنشر وسائل الإعلام الأخرى تقارير عن علاقات محتملة لحملته مع موسكو.


يعزّز هذا السلوك أفكاراً "مؤامراتيّة" لدى أنصار ترامب عن تعرّضه للاستهداف من قبل "النخب". طبعاً، ليست تلك الشركات مسؤولة عن صعود موجة الشعبويّة والعدوانيّة تجاه "المؤسّسة"، بل كما يشرح أرونشتاين في دراسته الطويلة، بدأت بذور الشعبويّة تنمو مع جمهوريّين تقليديّين مثل رئيس مجلس النوّاب الأسبق نيوت غينغريتش، قبل أن يوسّعها الإعلام "اليساريّ" في ما بعد. بالتالي، إنّ ظاهرة بدأت بالنموّ منذ الثمانينات، لن تلفظ أنفاسها الأخيرة بمجرّد سقوط أحد أبرز تجسيداتها في القرن الحاليّ، وبالأخصّ أنّ سقوطه المبدئيّ لم يكن بفارق كبير. فقد نتج عن جائحة استثنائيّة كما عن تحالف عريض بين الإعلام السائد وشركات مواقع التواصل الاجتماعيّ وتكتّلات رؤوس الأموال التي "حاصرته" طوال أربع سنوات. أو على الأقلّ، هذه هي وجهة نظر عدد كبير من مؤيّدي ترامب. من الطبيعيّ إذاً أن يبحث مؤيّدوه اليوم عن مؤامرة خفيّة في مراكز الاقتراع، أكانت موجودة أو خياليّة بحتة.


ليس اكتشافاً مفصليّاً حديث الغالبيّة الساحقة من المراقبين عن بقاء الترامبيّة. من "الغارديان" مروراً بـ "واشنطن بوست" و "بلومبيرغ" و "فايننشال تايمس" و"سلايت" وصولاً إلى "سي أن أن"، ثمّة إجماع على أنّ الترامبيّة لن تُهزم في المدى المنظور، بصرف النظر عمّن يشغل البيت الأبيض.


سيقاتل ترامب حتى اللحظة الأخيرة لإبعاد كأس الخسارة المرّة. وإذا أثبتت المحاكم صحّة خسارته فمن المرجّح أن يقود ترامب المعارضة، لا أن يغادر البلاد كما قال في أحد تجمّعاته الانتخابيّة. إنّ شخصنة السياسة، كإحدى الصفات المميّزة للترامبيّة، تحفّز الرئيس الخاسر على "الانتقام" لخسارته الشخصيّة.


انتقام
سيستغلّ مجلس الشيوخ الذي لا يزال الجمهوريّون مسيطرين عليه (بانتظار انتخابات فرعيّة في كانون الثاني) من أجل عرقلة بايدن. يرى ترامب أنّه الرئيس الذي تعرّض لأطول فترة تشكيك بشرعيّته من قبل الديموقراطيّين، وقد حان وقت الردّ. أمّا مناصروه الذين يكادون يؤيّدونه إلى حدّ "عبادة الشخص" فتنتابهم المشاعر نفسها. صحيح أنّ بايدن دعا مؤيديّ منافسه إلى الوحدة واعداً إيّاهم بأن يكون رئيساً لهم أيضاً، لكن من غير المرجّح أن يلقى نداؤه صدى لديهم. "الانتقام" قد يكون بالنسبة إلى ترامب أفضل طبق يؤكل بارداً أم ساخناً – لا فرق.


يتذكّر الجميع الحملة التي شنّها ترامب على أوباما قائلاً إنّ الرئيس السابق لم يولد في الولايات المتّحدة. انتظر أوباما حتى دعا المراسلين والصحافيين إلى حفل عشاء في البيت الأبيض في 30 نيسان 2011، وكان ترامب مدعوّاً إليه. ليلتذاك، أخذ أوباما يلقي النكات على قطب العقارات السابق مسمّياً إياه بالاسم فيما كان الأخير يجلس مبتسماً وسط حضور ضاحك. أتى العشاء بعدما أطلقت ولاية هاواي وثيقة ولادة أوباما في الولايات المتّحدة. أحرج الرئيس السابق ترامب وسط حشد من الجمهور قائلاً إنّ الأخير سيستطيع، بعدما تأكّد من وثيقة الولادة، العودة "للتركيز على الأمور التي تهمّ مثل هل زوّرْنا الهبوط على القمر؟".


يقول البعض إنّ الترشّح إلى الانتخابات الرئاسيّة بوجه كلينتون كانت وسيلة لانتقام ترامب من أوباما بسبب ذاك الإحراج الشهير. يجد ترامب اليوم الفرصة مؤاتية للانتقام مجدّداً من بايدن وداعميه بدءاً من أوباما وصولاً إلى الإعلام. في الكونغرس، وضعُ الجمهوريّين أفضل من المتوقّع. فرصة ترامب تحويل بايدن إلى "بطّة عرجاء" طوال أربع سنوات هي حقيقيّة. كيفيّة تنفيذ ترامب خطّة كهذه غير واضحة. لكنّ أدواتها متوفّرة: عصبيّة جمهوريّة، مظلّة من القيم الاجتماعيّة المحافظة، "مظلوميّة" بسبب تحالف "المؤسّسة" واليسار الراديكاليّ، الدفاع عن هويّة أميركا، مناهضة تدخّليّة الدولة في الأعمال، حماية العمّال في مواجهة العولمة. الترامبيّة باقية. رحلة بايدن الرئاسيّة عاصفة. وكذلك رحلة الديموقراطيّين.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم