الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

متى تنجح أميركا في سياستها الخارجية؟

المصدر: "النهار"
مبنى الكابيتول في واشنطن (أ ب).
مبنى الكابيتول في واشنطن (أ ب).
A+ A-

تبدو سلسلة الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في العقدين الماضيين عبارة عن "كوارث متنقلة" حتى يكاد يُخيّل للمتابعين أنّ هذه البلاد ليست هي نفسها تلك التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية وفي الحرب الباردة معاً. هذا ما حاول الكاتب زاكاري شور معالجته في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي".

رأى شور أنّ واشنطن "تتمتع بالقوّة لفعل أمور عظيمة"، لكن "غالباً ما تفتقر للبصيرة كي تقوم بأمور حكيمة". وأضاف: "لم يكن الأمر دوماً هكذا، ولم يكن ينبغي أن يبقى على هذا النحو لفترة أطول".

لقد ارتكبت الولايات المتحدة سلسلة من القرارات "الكارثية" التي أنتجت حروب فيتنام وليبيا والعراق وأفغانستان. والسؤال الأساسي هو كيف بإمكان دولة كالولايات المتحدة كسبت الحرب العالمية الثانية وأطلقت "مشروع مارشال" وأعادت بناء ألمانيا واليابان كقوتين ديموقراطيتين واقتصاديتين أن تخفق في هذا الكم من التدخلات الأجنبية.

يجيب شور بأنّه يمكن صنّاع القرار التعلّم ممّا "لم تفعله" الرئاسات الناجحة أكثر ممّا فعلته. لقد نجح الرؤساء الأميركيون حين اعترفوا بمحدودية قوة بلادهم، لكنهم في الوقت نفسه، لم يتراجعوا بما أنهم رأوا وجود حاجة للمُثل الأميركية في العالم. مع خروج واشنطن منتصرة في الحرب العالمية الثانية، بدا أنّها قادرة على فعل أي شيء تقريباً لكنّها أبقت غرورها جانباً.

حين مارس الزعيم السوفياتي جوزف ستالين قوته الصلبة في بلغاريا ورومانيا، واجه الرئيس هاري ترومان ووزير خارجيته جايمس بيرنز خيارين صعبين: إما دخول قطيعة مع موسكو مباشرة بعد الحرب أو الاعتراف بسقوط هاتين الدولتين في الفلك السوفياتي. لم يُعجب أي سياسي أميركي بسيطرة السوفيات على أي دولة، لكنهم أدركوا أنّه ليس بإمكان واشنطن الحصول على كل ما أرادته. فهي لم تكن قادرة على شن حرب جديدة بعد الحرب العالمية الثانية خصوصاً أنّ الجنود الأميركيين كانوا تواقين للعودة إلى وطنهم. كذلك، شعر كثير من الأوروبيين الشرقيين بالانجذاب إلى الشيوعية بناء على وعدها بمجتمع أكثر مساواة.

لذلك، عوضاً عن التصعيد، ضغط بيرنز في منطقة أخرى متنازع عليها: اليابان. أمل ستالين الحصول على بعض النفوذ في اليابان لكنّ تلك الدولة تمتعت بأهمية عظيمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وافقت الدولتان على احترام مناطق نفوذ بعضهما البعض. لقد أدركتا أنهما غير قادرتين على اكتساب جميع ما أرادتاه لأنهما علمتا أنّ كلفة الحرب كانت أعلى من أي مكسب.

حتى "عقيدة ترومان" التي شددت على حماية واشنطن للعالم من القمع كانت خطابية أكثر منها واقعية. كان بإمكان واشنطن مساعدة اليونان وتركيا ضد التوغلات السوفياتية لكنها لم تكن قادرة على حماية الشعوب الحرة في كل مكان.

سنة 1947، دعت هيئة الأركان الأميركية إلى تدخل شامل في الصين للدفاع عن قوات شيانغ كاي شيك الوطنية. لكنّ وزير الخارجية جورج مارشال والرئيس ترومان قبلا بإرسال مساعدة مالية غير عسكرية فقط. علم الرجلان أنّهما سيلامان على "خسارة الصين" لكنهما أدركا أنّه كان من الأفضل تلقي انتقادات المعارضين عوضاً عن إغراق البلاد في حرب لا يمكن الفوز بها.

وحدث الامر نفسه حين حاول ستالين خنق أوروبا الغربية عبر قطع الفحم والغذاء والدواء عنها. وبدلاً من الانسحاب، عمدت واشنطن إلى نقل أكثر من مليوني طن من المساعدات على امتداد 15 شهراً وهي إمدادات أكبر حجماً مما كانت تحصل عليه برلين قبل الحصار. بحسب شور، عزّز ترومان القيم الأميركية من دون إطلاق رصاصة واحدة.

وفي الحرب الكورية، أدرك ترومان أنّ الصين لن تقبل بوصول قواته إلى حدودها. بشكل مثالي، كانت واشنطن تفضل تحرير كل كوريا وجعلها ديموقراطية. عبر القبول بوقف الأعمال العدائية وتقسيم الكوريتين، اعترف الأميركيون بأنهم قادرون على إبقاء مُثلهم حية في جنوب شبه الجزيرة.

وطالب كبار صنّاع القرار الأميركيين الرئيس دوايت أيزنهاور بقبول التماس الفرنسيين المساعدة العسكرية في حربهم الفيتنامية. رفض أيزنهاور الأمر قائلاً إنّ الفيتناميين سينظرون إلى الأميركيين على أنهم مستعمرون جدد. كذلك، لم يكن بالإمكان رؤية فيتنام على أنها أساسية لمصالح واشنطن أو أنّ دعم الاستعمار الفرنسي كان سيعزز القيم الأميركية.

لاحقاً، مع انخراط الولايات المتحدة في الدفاع عن فيتنام الجنوبية في مواجهة الفيتكونغ، فشل الأميركيون في معرفة عدوهم. بالمقابل، أدرك الأخير نقطة ضعف واشنطن: حاجتها للإبقاء على دعم الجمهور الأميركي للحرب. اتبع الزعيم الفيتنامي الشمالي لو دوان استراتيجية تقويض إرادة القتال لدى الشعب الأميركي. بعدها، انخطرت أميركا في نزاعات أصغر وأكثر محدودية.

عقب سقوط جدار برلين واجتياح صدام للكويت، أشرف بوش الأب على طرد الجيش العراقي لكنه لم يتوجه إلى بغداد. علم الرئيس الأسبق أن طرد جيش محتل أمر مختلف عن تغيير النظام وإعادة بناء آخر. على الرغم من الانتقادات التي طالته، عرف بوش الأب ما يمكن تحقيقه بشكل معقول.

وتابع شور أنّ بوش الأب كان آخر رئيس أميركي شارك في الحرب الباردة أكان في الميدان أو في الحكم. كان ذلك "أعظم جيل ساعد في تأسيس القرن الأميركي". لقد جسّد قادة ذلك الجيل روح الاندفاع المقرون بالواقعية. إنّ الذين تعلموا احترام حدود القوة الأميركية تمتعوا بنفوذ عظيم في معظم نزاعات الحرب الباردة. فيتنام كانت استثناء في تلك الحقبة.

ويرى الكاتب أن بوش الابن ورث القوة الأميركية، لا الحكمة، عن أبيه. لقد وصل إلى الرئاسة بعد فترة طويلة من النمو الاقتصادي والسلام النسبي. لقد فشل بوش الابن في إدراك محدودية الولايات المتحدة على مستوى ما يمكنها إنجازه في بلاد مقسمة طائفياً ومناطقياً.

وإذا كان العراق فسيفساء فأفغانستان عبارة عن أحجية ذات أجزاء مفقودة. فصائلها وقبائلها ومذاهبها وأمراء حربها وانقساماتها الإقليمية جعلت من بناء الدولة في العراق يبدو بسيطاً. إنّ فكرة أنّ أميركا تمتّعت بالقوة لبناء هوية وطنية في تلك الدول كانت تفاؤلية في أفضل الأحوال. مع ذلك، قوضت واشنطن نجاحها الخاص بشكل متكرر عبر التقليل من أهمية الصعوبات وبناء نهج قصير المدى وتبديل مستمر في الاستراتيجيات وغيرها من الأخطاء.

ويعتقد الكاتب ختاماً أنّه لا يزال بإمكان واشنطن نشر الحرية، لكن يجب عليها اتباع أساليب أذكى. أدرك قادة الجيل الأول بعد الحرب العالمية الثانية أن ضبط النفس لا يعني الانعزالية وأنّ تعزيز المُثل لم يتطلب المغامراتية. التوازن كان سر نجاحهم.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم