الثلاثاء - 21 أيار 2024

إعلان

الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2022: بين دورة أولى متوقّعة النتائج ودورة ثانية حمّالة مفاجآت!

المصدر: "النهار"
المرشحان للرئاسة الفرنسية ماكرون ولوبن (أ ف ب).
المرشحان للرئاسة الفرنسية ماكرون ولوبن (أ ف ب).
A+ A-

ميشال أ. سماحة

لم تأتِ نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية بعيدة من توقّعات الاختصاصيّين والخبراء المتابعين. صحيح أن هناك قراءات عديدة قدّمت بمستويات مختلفة عن خلفيّات التصويت (سوسيولوجياً، سياسياً، جغرافياً، ديمغرافياً واقتصادياً)، ولكنّني أعتقد شخصيّاً أنه يجب الذهاب أكثر في عمليّة تحليل للتغيّرات التي طرأت على الساحة السياسيّة والحزبيّة بسبب ما تحمله هذه الانتخابات من تحدّيات ومخاطر تتخطّى الجغرافيا الفرنسيّة.


إذا نظرنا إلى النتائج النهائية للدورة الأولى، التي أعلنتها وزارة الداخلية الفرنسية، نجد باختصار شديد الآتي:


اليسار القديم مجتمعاً حصل تقريباً على 10% (التروتسكيون، الشيوعيون، الاشتراكيون والخضر). من هنا، أتى بعض التصويت المفيد لحزب "جان لوك ميلونشون"؛ ومن هنا، يُمكننا فهم ثقل اليسار في هذه الانتخابات في خريطة سياسيّة ذاهبة أكثر نحو اليمين.

كلّ اليمين التقليدي الديغوليّ حصل على 10% أيضاً (دوبون، لسال وبكراس). وهذا يُعبّر عن تحوّلات كبيرة في داخل اليمين الذي تغيّر بالحجم وبالمضمون. من المؤكّد أن تصويتاً مفيداً Vote utile حصل من الجمهوريين لصالح الرئيس ماكرون.

نسبة تصويت ميلونشون تعبّر عن عطش اليسار الفرنسيّ إلى قيادة جديدة، وفكرة جديدة تجمعه بعيداً عن الأفكار التي يعتبرها ليبراليّة. وهو قد استطاع أن يربح المزيد من الأصوات مقارنة بانتخابات 2017.

تيّار لوبن أكّد تماسكه وتغلغله في شرائح جديدة من المجتمع الفرنسي. وإذا أضفنا إليه أصوات زيمور، فإنّ 30.2% من الناخبين اقترعوا بقناعة كبيرة Vote d’adhésion et de conviction ليمين اليمين أو أقصى اليمين، الذي قد يكون الجسم السياسيّ الوحيد الصلب الذي لم يستحصل على تصويت مفيد. وقد يكون جزء من ناخبي لوبن صوّتوا تصويتاً تكتيكياً لزيمور لدفع لوبن إلى البقاء على تشدّدها، بعد تعبيرها عمّا يعتبرونه ليونة في مسائل تتعلّق بالهجرة والاتحاد الأوروبي.
أما الرئيس ماكرون، فإنّه حسّن رصيده، ولكنّه – كما سنرى في هذا المقال – استحصل على تصويت أبعد وأكبر بكثير من قاعدته الحزبيّة. ويُمكن القول بسهولة كبيرة إن الجزء الأكبر من التصويت المفيد ذهب إليه في هذه الدورة.

وبناءً على ذلك، فإنّ المتعارف عليه بطريقة التصويت على دورتين أنّ الناخب يقترع تعبيراً عن قناعاته في الدورة الأولى، وفي الدورة الثانية، جزء كبير من الناخبين (خاصّة للمرشحين المستبعدين من الدورة الأولى) يلجأ إلى التصويت المفيد، وذلك إمّا لاستبعاد مرشّح ما élimination ، وإمّا تعبيراً عن تحالف  coalitionتمّت صياغته إثر نتائج الدورة الأولى. هذا العرف لم يعد قويّاً بسبب تبدّل اللعبة السياسية، ونتيجة للخروج من الصراع التقليدي بين تكتّلات اليمين واليسارLes gauches et les droites plurielles .

هذا من ناحية توصيف النتائج، فماذا عن التحليل ببعده التاريخيّ الذي يمكن أن يوضح لنا الديناميّات العميقة التي أفرزت هذه النتائج؟

لا شكّ في أن تحوّلات كبيرة بدأت تطرأ على الحياة السياسية للجمهورية الخامسة (جمهورية ديغول) وعلى حياتها الحزبية منذ انتخابات 2002. حتى في الولاية الثانية للرئيس جاك شيراك (2002-2007)، الذي يعتبر آخر الديغوليين، هو ورئيس وزرائه الأخير (دومينيك دو فيلبان)، بدأت بدايات تخمّر هذه التغيّرات التاريخيّة في أهمّ وأكبر حزبين (تجمّع اليمين والحزب الاشتراكي). في حزب تجمّع اليمين برزت بقوة ظاهرة نيكولا ساركوزي، وعند الاشتراكيين ظاهرة فرانسوا هولاند وفالس وسيغولين رويال.

عند تجمّع اليمين، حسمت المعركة من خلال تواطؤ ساركوزي مع التظاهرات التي اندلعت في 2006 ضدّ قانون العمل الجديد للشباب  contrat premier embauche، الذي تقدّم به في حينها رئيس الوزراء اليميني دومينيك دو فيلبان المدعوم من الرئيس. تراجعُ رئيس الوزراء عن مشروع القانون سهّل استبعاده من السباق الرئاسيّ، وفرض ساركوزي مرشّحاً أوحد لليمين. أما عند الاشتراكيين، فسيغولين رويال فازت بفارق كبير أمام دومينيك ستروسكان ولوران فابيوس في Primaire دورة ترشيحات الحزب في عام 2006.

يُمكن بذلك الاعتبار أنّه مع بدايات الـ2006 وانتخابات 2007 ووصول ساركوزي إلى سدّة الرئاسة الفرنسية، بدأ تحوّل تاريخيّ عميق، بطيء، ولكنّه ثابت في توجّهاته الليبرالية، يميناً ويساراً. يميناً، أدّى إلى تهميش الديغوليين، ويساراً أدّى إلى خروج التيار الماركسيّ من الحزب الاشتراكي، جان لوك ميلونشون.

ومنذ ذلك الحين، بدأ تخلخل الحزبين الكبيرين بتحالفاتهما وزاد تراجعهما. فبدأ الوسط Le centre (UDF) يؤدّي دوراً مرجّحاً في نتائج الانتخابات. كانت البداية بتحالفٍ مع فرانسوا هولاند في الدورة الثانية في عام 2012، ومع ماكرون من الدورة الأولى في عام 2017. وبات هذا الوسط، الذي كان يُعتبر تاريخيّاً وسطاً يمينيّاً، أو ليبرالياً - اجتماعياً ديموقراطياً، نقطة تجمّع لليبراليين الآتين من اليمين واليسار التقليديين، مع توجّهات أوروبية قويّة. هذا التحوّل الذي بدأت مظاهره تكتمل بنتائج الدورة الأولى للانتخابات الحالية، أطلق عليه شخصيّاً خيار الليبرالية غير المقنعLibéralisme non assumé ، ويعود ذلك إلى حساسية الفرنسيين تجاه الليبرالية الاقتصادية الأميركيّة.

وبناءً على نتائج الدورة الأولى، إذا اعتبرنا أن كلّ اليمين التقليديّ هو ليبرالي (وهو ليس كذلك)، وأضفناه إلى نسبة أصوات الرئيس ماكرون، يكون حجم الليبراليين دون الـ33% مقابل 67% معادين له، ويتوزّعون بين اليمين واليسار؛ بين يسار معادٍ لليبراليّة الاقتصاديّة (إضعاف دولة الرعاية، ضدّ الخصخصة، ومع مزيد من العدالة الضريبيّة) ويمين معادٍ لليبرالية السياسيّة بشكل أساس (العولمة، الهجرة وضدّ الاتحاد الأوروبي).

هذا الانتقال التاريخيّ من وسط يُشكّل "نقطة" التقاء لليبرالية -الاجتماعية على الطريقة الفرنسية إلى "كتلة ومساحة" سياسيّة ليبرالية حدث على وقع طلاق الحزبين التاريخيين مع الطبقات الشعبية في قواعدهما. الاشتراكيون طلّقوا قواعدهم في أوساط الطبقة العاملة، وهكذا فعل اليمين عندما تخلّى عن جناحه المحافظ الكاثوليكيّ والريفيّ في الأوساط الشعبية. هذا التخلّي المزدوج هو الذي سهّل الوصول إلى الخريطة السياسيّة التي نراها اليوم (من دون ذكر أثر ضرب ساركوزي لنتائج استفتاء 2005 حول اتفاقية ليشبونة بشأن الدستور الأوروبي، وأزمة 2008 والتراجع الاقتصادي الفرنسي، والخروج الإنكليزي من أوروبا، ودورهم في كلّ ذلك). انعكس ذلك توسّعاً في قاعدة اليمين المعروف باليمين المتطرّف من جهة، كما في إعادة تشكّل اليسار لينتهي إلى اضمحلال الحزب الاشتراكي وصعود حزب ميلونشونLa France Insoumise ، الذي يُمكن اعتباره تدويراً للحزب الاشتراكي مع ثقل أكبر بتركيبته لليسار الراديكالي. وهذه الدينامية لم تستطع حتى حرب أوكرانيا عكسها كثيراً لصالح الرئيس والتيار الليبرالي، إلا هامشيّاً.

من هذا المنظار يجب قراءة تشظّي الحياة السياسية والحزبية الفرنسية؛ ومن هذا المنظار أيضاً يجب قراءة الأوزان السياسية الجديدة للكتل السياسية الثلاث التي برزت مع إعطاء أهمّية لحجم المقاطعة المتصاعد دورة بعد دورة. وهذا الوضع هو الذي منع هذه المرة قيام جبهة جمهوريّة في وجه لوبن Front républicain مع وثبة ديموقراطية Sursaut démocratique لتسهيل فوز ماكرون. فالرئيس ماكرون كممثل لهذا الوسط الجديد الليبرالي الأوروبي ليس لديه هامش للتفاوض يميناً ويساراً لخلق تحالف وطنيّ يُلغي احتمال وصول لوبن إلى السلطة، أو حتى للفوز بفارق كبير ينزع عنها الشرعيّة.

بناءً عليه، وبالرّغم من أن كلّ الإحصاءات تشير إلى تقدّم ماكرون على لوبن، يُفضّل جزء كبير من قاعدة المبعدين من الدور الأول أن لا يقترع، وجزء آخر سينقسم تصويته بين الرئيس ولوبن، وهذا بحدّ ذاته إشارة إلى المأزق الذي تتّجه إليه هذه الانتخابات. هذا المأزق سيتعمّق بعد الانتخابات، بغضّ النظر عن الرابح، لأنه يبدو أن من الصعب تمكّن أيّ من المرشّحين من حصد أكثرية برلمانية تمكّنه من الحكم من دون اللجوء إلى تحالف عريض... تحالف يصعب تصوّر تبلوره بمعطيات اليوم. فهل تكون نتائج هذه الانتخابات سبباً لأزمة حكم ومؤسّسات وشرعيّة رئيس، هي الأولى بهذا الحجم في الجمهورية الخامسة؟!

 


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم