الأربعاء - 15 أيار 2024

إعلان

كريم بقرادوني "مؤرخاً وشاهداً" لحليفه ميشال عون رجل التحديات" ( 2 ) "التحدي الكبير": في 1990 خرج من الباب الخلفي وفي 2016 عاد رئيساً

المصدر: "النهار"
 ميشال عون.
ميشال عون.
A+ A-
صدر قبل أيام آخر مؤلفات وكتب احد اكثر اللاعبين والسياسيين اللبنانيين اثارة للجدل المحامي كريم بقرادوني الذي خص "حليفه" رئيس الجمهورية السابق ميشال عون بهذا الكتاب تحت عنوان "ميشال عون رجل التحديات" . يقع الكتاب في 584 صفحة من الحجم الوسط وصدر عن دار كنعان للنشر والتوزيع ويتوزع على خمسة أقسام وخاتمة. يحرص المؤلف كريم بقرادوني في مقدمة الكتاب على التنويه بان "الجنرال على علم باني في صدد اصدار كتاب عنه غير انه لم يطلع على مضمونه قبل صدوره وكل ما ورد فيه هو على مسؤوليتي الشخصية ويعبر عن وجهة نظري حول مسيرة ميشال عون ومساره. وليكن واضحا للقارئ أني لست في صدد كتابة تاريخ ميشال عون بل في صدد ما سمعته من أقوال وشاهدته من أفعال منذ ان تعرفت به للمرة الأولى عن طريق بشير الجميل في العام 1980 ".

تنشر "النهار" في ثلاث حلقات مقتطفات ومختارات من ثلاثة أقسام في الكتاب بمعزل عن أي تقويم مهني او سياسي مسبق للكتاب الذي قد نخصص له لاحقا حلقة منفصلة ، بل فقط لمجرد الإضاءة على هذا الإصدار الجديد لبقرادوني الذي يعد من اوثق حلفاء الزعيم والرئيس الذي كتب عنه علما ان السرد التفصيلي للوقائع يغلب على الكتاب .المقتطفات في الحلقة الثانية هي من فصل "التحدي الكبير" الذي يروي وصول عون الى رئاسة الجمهورية.

جرى ترتيب بدقة وعناية لقاء سرّي بين عون والحريري: الوجهة الرسمية لعون كانت مبدئيًا روما في زيارة خاصة، وعندَ وصوله إلى العاصمة الإيطالية كانتْ في انتظاره طائرة الحريري التي أقلّته إلى باريس حيث عقدَ لقاءً طويلًا في منزل سعد الحريري. بعد عودتهِ من اجتماعاته الباريسية بدا الجنرال مرتاحًا ومتكتمًا. فهمتُ بالإيحاء أكثرَ منه بالتصريح أنَّ قصة لقائه الحريري بدأت في نهاية 2013، وقد حرصَ الجنرال على إطلاع السيد حسن نصرالله على ما هو عازم عليه. باركَ السيد تلك الخطوة وأوجزَ كلامَه بجملة واحدة وجهّها إلى عون :اتّكلْ على الله وافعل ما تراه مناسبًا لمعركتك الرئاسية.

وما رشحَ عن اجتماع باريس أنَّ الجنرال اقترحَ على الحريري أنْ يتفاهم مع نصرالله، وقال له ما مفاده: إنَّ هذا التفاهمَ يشكل ضرورة قصوى، وهو يساهم، إذا حصل، في إنقاذِ لبنان، وأنا مستعدٌ للتقريب بينكما وتأديةِ دور إيجابي على هذا الصعيد، وتكون البداية بجلوسكما جنبًا إلى جنب داخل الحكومة، وتابع الجنرال: أتمنى عليك أنْ تخفّفَ من حدّة الخطاب الذي تستخدمه ضدّ حزب الله، مما يساعد على الانتقالِ بالعلاقة إلى حالة مقبولة تسمح بتحقيق اختراق ما.

أشارَ الحريري إلى ملفِّ اغتيال والده، فقال له عون بكلّ صراحة وصدق: “إنَّ حزبَ الله لم يقتلْ والدكَ، لقد سبق لك أن اتهمتَ الرئيس بشار الأسد باغتياله، ثم برأته المحكمة الدولية التي عادَت ووجّهت الاتهام إلى الحزب، وهو أيضًا بريء...

تشعّبَ الحديثُ فتناولَ مختلف المواضيع لكنَّ عون شدّدَ على أمرين: من جهة التعجيل في تشكيل الحكومة، ومن جهة أخرى ضرورةِ عودة الحريري إلى بيروتَ في أقرب فرصة، وقال له: يجبُ أنْ ترجعَ إلى لبنان حتى تكون شريكًا في الحلِّ والحكم.

عند بلوغِ النقاش مسألة سلاح الحزب، لفتَ عون نظرَ محاوره إلى أنَّ المقاومة حقّقت انتصارات تاريخية، ولا يمكنها أنْ تتخلّى عن سلاحها راهنًا مع استمرار التهديدات الإسرائيلية، وأنَّ الجيش اللبناني ليس قادرًا بعد على مواجهة إسرائيل والتصدي لاعتداءاتها، وعليه يجبُ دعم الجيش وتقويته أولًا، ومن ثم معالجة ملفّ سلاح الحزب استنادًا إلى استراتيجية دفاعية متوافق عليها.

…في 24 أيار 2014 أبلغَ ميشال عون "مجموعة السبت" ضرورةَ عدم التطرّق في اتصالاتهم وأحاديثهم إلى موضوعِ "الخيار الثالث "أي احتمال استبعاد عون وجعجع والذهاب إلى ترشيح واحد من الأسماء المتداولة أو من الأسماء التي قد يطرحُها البطريرك الراعي، وأصرَّ عون على أنَّ مجردَ البحث في الخيار الثالث يعني أنّي لم أعدْ مرشحًا إلى الرئاسة الأولى. تبيّن لي خلال هذا الاجتماع أنَّ الجنرال عازم على الذهاب إلى النهاية، وقال بلهجة لا تحتملُ أيَّ تأويل: لن أتخلّى عن حقّي في الموقع الرئاسي، وقد أخطأتُ عندما تنازلت في العام 2008 لمصلحة الرئيس ميشال سليمان، ولن أكرّرَ هذا الخطأ مرة أخرى. وختمَ كلامه: لن أستعجل الاتصالات الجارية مع الرئيس سعد الحريري الذي يحتاجُ إلى بعض الوقت لاتخاذِ قراره، وإنّي أتفهمُ هذا الأمر بالنظر إلى وضع تياره الداخلي وضرورةِ مراجعة حلفائه اللبنانيين وغير اللبنانيين.

وبالسؤال عن أجواء المفاوضات الجارية مع الحريري، أجابَ عون: إنَّ الحريري يُبدي استعدادات طيبة لكنّه لم يعطِ جوابًا نهائيًا، وإذا توصّل إلى جوابٍ نهائي فإنّه لن يكون مجانًا ولا عملًا خيريًا، بل يدخلُ في سياق تقاطعِ المصالح وضمان شراكة مثمرة له ولتياره. وعن موقف حزب الله، ابتسمَ عون وقال بثقة ما بعدها ثقة: من يتصوّر أنّ خلافًا قد يحدث مع حزب الله على ترشحي إلى الرئاسة الجمهورية هو واهم. إنَّ علاقتي مع الحزب تتخطّى المواقع والرئاسات، وتابعَ: إنَّ تفاهمي مع حزب الله هو القيمةُ المضافة التي تخوّلني أنْ أديرَ المعركة الانتخابية كما أراه مناسبًا، وكلّ ما أقرّره في هذا الشأن موافق عليه الحزب مسبقًا. وختمَ اللقاء قائلًا: لكلّ شيءٍ ثمن، وقد دفعتُ في حياتي أكثرَ من مرة الثمنَ الأعلى، وكل ما قد يطلبُه الحريري سيكون أقلّ من بعض الأثمان التي سدّدتها في الماضي.

….مع نهاية العام 2014 أقفلَ "حزب الله" الباب أمامَ أي مرشح باستثناء
ميشال عون، ورفض رفضًا قاطعًا أي مرشح توافقي على صورة الرئيس السابق ميشال سليمان. من جهته، حسمَ الجنرال في صورة نهائية ما كان محسومًا، فقال لي في هذا السياق: أنتَ تعرفني. أنا قرّرتُ بصورة نهائية أن أخوض هذه المعركة ولن أنسحب منها، وكما قرّرْتُ ألاّ أغادر قصر بعبدا عام 1990 إلَّا بالقوة العسكرية ، فأنا مصمّمٌ اليوم ألَّا أتراجع عن ترشحي إلى رئاسة الجمهورية وليس في الداخل أو الخارج قوةٌ قادرة على إلزامي بالتراجع، والانتخابات الرئاسية أصبحت بالنسبة إليّ التحدي الأكبر.

انطلقَ العام 2015 لبنانيًا في ظلِّ وضعٍ أمني مقلق نتيجة الإرهاب الذي تمارسه التيارات التكفيرية كجبهة النصرة وداعش، وفي سياق وضع سياسي هشّ فيه الكثير من الحوارات والقليل من التفاهمات ولا سيما في الموضوع المركزي المتعلّق بانتخاب رئيس الجمهورية.
وبسؤالي الجنرال عن احتمال لقائه

سمير جعجع قال: “أنا حريصٌ كلَّ الحرص على الحوار الدائر مع الدكتور جعجع بين إبراهيم كنعان وملحم رياشي، غير أنّي لا أستعجل اللقاء طالما أنَّ الدكتور جعجع لم يحدّدْ بعد موقفَه من موضوع رئاسة الجمهورية، مع العلم أنَّ الاتفاقَ على الرئاسة هو المدخل إلى إبرام تفاهماتٍ على المواضيع الأخرى.

والواقعُ أنَّ عون يمسكُ بمفتاح الرئاسة على الصعيد الوطني، وجعجع يمسكُ بمفتاح الرئاسة على الصعيد المسيحي، فإذا وافق الحكيم على انتخاب الجنرال رئيسًا للجمهورية فإنَّ تيار المستقبل مضطرٌ إلى الموافقة على قرار حليفه.

في هذه الأثناء، شهدت العلاقة بين التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية تطورًا إيجابيًا، وقد شكل الثنائي النائب إبراهيم كنعان أمين سرّ تكتل
التغيير والإصلاح، وملحم رياشي المسؤول عن جهاز الإعلام والتواصل في القوات اللبنانية، ركنين لانطلاقة هذا التقارب منذ كانون الأول 2014. ما جمع كنعان ورياشي أنهما عملا معًا في فريق ألبير مخيبر بدايةً وتحوّلا إلى صديقين، وهما مقتنعان بضرورة إحياء قوة مسيحية تُعيد التوازن المفقود على الصعيد الوطني، وتؤكد الحضور المسيحي في الدولة بدءًا من رئاسة الجمهورية وصولًا إلى مجلسي النواب والوزراء وانتهاءً بكل المؤسسات العامة.

انطلق هذا التقارب بلقاءات ثلاثية في منزل الجنرال عون في الرابية ضمّته إلى كنعان ورياشي. دام الاجتماع الأول حوالى أربع ساعات تولّدت خلاله حالة مودة بين الجنرال ومندوب القوات ووصلت إلى حدّ كان رياشي يتنبأ للجنرال بالمستقبل بقراءة كفه. وكان الجنرال يناديه بلقب "إسكندر" تيمّنًا بالصحافي المعروف إسكندر رياشي. ولم تقتصر اللقاءات على السياسة بل أهدى ملحم إلى الجنرال كتابًا ألّفه تحت عنوان “يهوذا الأسخرياطي، الخائن البار” إضافةً إلى CD للموسيقار الألماني غوستاف ماهلر. وفي يوم عيد الميلاد، اتّصل رياشي عبر تلفونه الشخصي بالدكتور جعجع قائلًا له: “أنا عند الجنرال وبدو يعيّدك”. وباح الجنرال لاحقًا إلى ابراهيم كنعان الذي أُطلقت عليه تسمية “الشبّوق” بانطباعاته عن “إسكندر” فقال: “هيئتنا من ورا هالشاب يمكن نحلّ المشكل مع جعجع”.

طلب كنعان زيارة جعجع ليتأكد مباشرةً من مدى قراره التوصل إلى اتفاق مكتوب. وفي زيارته الأولى حمل كنعان إلى جعجع كتابًا ضمّ وثائق البطريرك الياس بطرس الحويك، وبسؤال جعجع: لماذا أهديت لي هذا الكتاب بالذات؟ أجابه كنعان: "لنتذكر أين كان الدور المسيحي، وبخاصة الماروني، وأين صرنا، على أمل أن نستعيد هذا الدور. فالبطريرك الحويك لم يطالب فرنسا بـ لبنان الكبير باسم الموارنة والمسيحيين بل فاوض باسم اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين". في 2 حزيران 2015، فاجأ جعجع الجميع بوصوله على حين غفلة إلى الرابية. ارتدى عون ثيابَه على عجل ونزل إلى الدار لاستقبال زائره الذي بادره ضاحكًا: شو رأيك بهذه المفاجأة ؟ أجابَه الجنرال: كنت أتوقعُ مفاجآتٍ كثيرة ولكن ليس إلى هذا الحدّ.

شكّل لقاء عون-جعجع حدثًا سياسيًا بامتياز، ودام لأكثر من ساعتين بحضور المفاوضين كنعان ورياشي اللذين عقدا مؤتمرًا صحافيًا أذاعا خلاله بيان "إعلان النيات" بحضور عون وجعجع وعلامات الارتياح بادية على وجهيهما.

أشاع إعلان الرابية جوًّا من الرضى في الأوساط الشعبية المسيحية بعامة وشيئًا من الحذر في الأوساط السياسية. وكان السؤال البديهي: هل الثنائية المارونية بين أكبر حزبين مسيحيين تسير على خطى الثنائية الشيعية بين
حركة أمل وحزب الله مع الفارق في الظروف والأشخاص والأهداف؟ وفي منأى عن هذا السؤال كان تيار المستقبل منزعجًا من خطوة سمير جعجع إلى حدٍّ كبير لحدوثها في توقيت غير مناسب فيما حزب الله يقاتل في سوريا،
وتيار المستقبل في خصام مع عون على قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية. وكان مجرد جلوس المرشح الرئاسي سمير جعجع في منزل المرشح الرئاسي ميشال عون يعني حصر المفاوضات الرئاسية بينهما من دون وسيط، وقد يعني أيضًا أن جعجع خطا خطوة بالانتقال من موقع المرشح لرئاسة الجمهورية إلى موقع الناخب القوي الذي يمسك بمفتاح باب بعبدا المغلق أمام عون.

خرج عون وجعجع رابحين لمجرد التفاهم على" إعلان النيات"...
….قبيل عيد الاستقلال، في تشرين الثاني 2015 عقد لقاء في باريس بين
سعد الحريري وسليمان فرنجية أحيط بالكثير من التكتّم والسريّة. وعلى الرغم من نفي الطرفين انعقاد هذا اللقاء، فإنَّه احتلَّ حيّزًا واسعًا من الاهتمام والتحاليل لصلته المفترضة بموضوع الانتخابات الرئاسية مع احتمال أنْ يكون سليمان فرنجية نجح حيث فشل ميشال عون بكسب الصوت السنّي الممثّل بتيار المستقبل وبموافقة سعودية.

في نهاية شهر تشرين الثاني قام سليمان فرنجية بزيارة مفاجئة لجبران باسيل في منزله في البترون دامت نحو ساعتين أطلعه خلالها على الاتصالات التي قام بها أخيرًا، وبخاصة اللقاء مع الحريري في باريس، وأخبره بما معناه أنَّه مرشح إلى الرئاسة، لكنّه لا يُكمل ترشحه إذا لم يوافقْ عليه الجنرال عون، ولا يريد أنْ يتسبّب بانقسام جديد بين المسيحيين، ولا يقبل صفقة تعيدُ الحريري إلى رئاسة الحكومة من دون ثمن. واستفاض فرنجية: أنا ما زلت داعمًا للعماد عون ولكن هناك فترة يجب أن نحترمها، فإذا لم يكن لعون حظٌّ أنْ يصل واختارتني قوى 14 آذار و8 آذار، فلماذا لا أترشح إلى الرئاسة ونحن من الخط عينه؟

أشار فرنجية إلى اجتماع بكركي الذي"توافقنا خلاله على أنْ يأتي رئيس جمهورية واحد من الأربعة الأقوياء وأنا اسمي بينَ الأربعة...”. توّسع فرنجية في طرحه قائلًا: “أنا لا أطعن أحدًا، وإذا حدث توافق عليّ، فما هو السبب لاستبعادي ما دام العماد عون ليس له حظ ونحن أعطيناه مهلة طويلة، ومستعدّون أنْ نعطيه مهلة إضافية؟” ثم تساءَل فرنجية: “إذا انقضتِ المهلة ولم يحصل العماد عون على تأييد من 14 آذار ومن الرئيس الحريري، فيعني ذلك أبقاءَ البلاد في الشغور الرئاسي...”. وختم حديثه مع باسيل: “الحريري اتّصل بي وأبلغني تأييده لي لرئاسة الجمهورية مع كتلة المستقبل...”. كانت الجملة الأخيرة هي خلاصة ما أراد فرنجية أن يبلغه إلى ميشال عون بواسطة جبران باسيل، وكان لا يريد إعلان ترشيحه قبل أخذ موافقة ميشال عون أو على الأقل إعلامه.

…التزم عون الصمت في شأن ترشيح فرنجية، وأوعزَ إلى وزرائه ونوابه
وقياديّي التيار بأن يفعلوا فعله. غير أن ردّ الفعل الأقوى جاء من خارج صفوف التيار الوطني الحرّ، وتمثّل بموقف سمير جعجع الذي فوجىء بالصفقة التي تمّتْ بين الحريري وفرنجية والتي لم يُعلمه بها أحد لا قبل التفاوض ولا بعده.أدرك جعجع أنَّ ترشيح فرنجية يعني أنَّ الحريري تخلّى عن ترشحه في حين أنَّ حزب الله ما زال متمسّكًا بترشيح عون. أبلغَ جعجع الحريري أنَّ ترشيحه لفرنجية لا يخدم مبادئ حركة 14 آذار وأهدافها، وأضافَ أمام بعض المقربين منه: لازم نعترف أنَّ حزب الله وفيّ إلى أقصى الحدود لحليفه ميشال عون... نيال الجنرال ..

في ضوء هذا التطوّر غير المتوقع، قمت باتصالاتٍ مع قيادة حزب الله، والتقيت في دمشق اللواء علي مملوك وكان الجواب قاطعًا ومختصرًا من الجانبين: “مرشحُنا هو ميشال عون”. أبلغتُ الجنرال الموقفين، فارتسمت علامات الارتياح على محيّاه وكأني أكدت له ما كان مقتنعًا به.

…في مطلع العام 2016، غلبت على المشهد الرئاسي اللبناني ثلاثةُ مواقف: موقفُ سعد الحريري المتمسك بترشيحِ سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، موقفُ حسن نصرالله المتمسك بترشيح ميشال عون، وموقف مفاجىء

لسمير جعجع أعلنه من معراب في 18 كانون الثاني 2016 أيّد فيه ترشيح عون إلى رئاسة الجمهورية.

استهلك صياغة تفاهم معراب بين التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية والمؤلّف من أربع صفحات جهدًا كبيرًا للاتفاق عليه، وخضع للتنقيح والتعديل مرات عديدة، ومُهر أخيرًا بتوقيع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل كطرفين، ووزير الإعلام ملحم رياشي والنائب إبراهيم كنعان كشاهدين، وفي حضور حشد من الشخصيات وممثّلين من الأحزاب والتنظيمات.


بعد إعلان نصرالله تأييد عون لرئاسة الجمهورية والحريري لرئاسة الحكومة باشرَ الحريري تحرّكًا سياسيًا وكأنّه على سباق مع الوقت. ففي نهاية أيلول تعشّى في بنشعي مع سليمان فرنجية، وتغدّى في بكفيا مع أمين وسامي الجميِّل، والتقى وليد جنبلاط، واجتمعَ مع سمير جعجع فورَ عودة هذا الأخير من السفر، وتركَ نبيه بري لآخر المطاف بالنظر إلى أنّه العقدةُ الأصعب لكنّه الممرُّ الإلزامي.

واجه الحريري أثناء تجواله السياسي عدّة مواقف صعبة، وكان الاجتماع الأصعب في البداية مع فرنجية وفي الختام مع بري. لم يوافقْ فرنجية على إعلانِ انسحابه من المعركة وقال للحريري: “نحن اتفقنا على أمرين، أولهما إذا أردْتَ التراجعَ عن ترشيحي تفعل ذلك بالتنسيق معي ومع الرئيس بري
ووليد جنبلاط، فلماذا لا نعقدُ لقاءً رُباعيًا اليوم لحسم الأمر؟ وثانيهما اتفقنا أيضًا أنك إذا تراجعتَ عن دعمي فإنّك لا تدعم عون، بل نذهب معًا إلى خيار ثالث”. ردَّ الحريري: “أنا مستعدٌّ لانتخابك غدًا، لكن أنت تعرف أنَّ الرئيس بري لم يؤمّنْ موافقة حزب الله على تأييدك، ولا نستطيع الغرق في التشاور ولا مفرَّ من الخروج من حالة المراوحة”.

في أعقابِ هذا الاجتماع هاجمَ فرنجية على التويتر عون والحريري على حدٍّ سواء وقال: “إذا اتفقَ سعد الحريري مع ميشال عون وسمّاه لرئاسة الجمهورية فإنّه سيحصد النتيجة نفسها التي حصدها أمين الجميِّل عندما سمّى عون رئيسًا للحكومة عام 1988”. امتنعَ عون عن الجدل، وقال لأوساطه: “فرنجية حرٌّ وهذا رأيه ولا تعلّقوا عليه”.

وفي لقائه مع بري الذي عيّن موعدًا جديدًا لانتخاب رئيس الجمهورية في 31 تشرين الأول، سمع الحريري كلامًا قاطعًا بأن بري لن ينتخب عون. وأنهى تحرّكهُ بزيارةِ الرابية في 30 أيلول فاستقبلَهُ عون بحرارةٍ ودامَ الاجتماعُ ساعتين ونصف الساعة، كانَ خلالها الحريري مرتاحًا وعون مبتهجًا: الأول لأنّه قام بواجباته على مستوى رئاسة الجمهورية وهو على أهبةِ السفر إلى السعودية وروسيا، والثاني لأنه تبلغ من الحريري انه سيعلن تأييده لرئاسة الجمهورية خلال 15 يومًا. وفي ختام اللقاء تمنّى الحريري على عون أنْ يعملَ جهده لتطمين الطائفة السنّية تسهيلًا لمهمته.

…خلال اجتماع يوم السبت في 8 تشرين الأول، أيقنتُ أنَّ جلسة انتخابات 31 تشرين الأول هي المفترق بين ميشال عون وسعد الحريري: إما يكونان معًا في الحكم، ويكون سعد الحريري ضمانة ميشال عون في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، وميشال عون ضمانة سعد الحريري للوصول إلى رئاسة الحكومة، وإمّا يذهبان إلى خلافٍ طويل المدى تدفعُ الدولة والجمهورية ثمنه غاليًا.

كان الكل في انتظار سعد الحريري الذي دعا إلى مؤتمر صحفي يعقده في 18 تشرين الأول ويعلن فيه تأييده لترشيح عون، لكن ذلك اليوم تزامنَ مع الذكرى الرابعة لاغتيال اللواء وسام الحسن، فأرجأ الحريري الإعلان لكنّه أبلغَ نبيه بري وسليمان فرنجية ووليد جنبلاط أنَّ خياره استقرَّ على ميشال عون وسيعلن الأمر خلال الأيام القليلة المقبلة.

جاء الردُّ من بري سريعًا وقاسيًا رافضًا استقبال الحريري، وأعلنَ أنّه في جبهة المعارضة ولن يسمّيه لرئاسة الحكومة، وفاتحَ كلّ الأطراف بأنَّ “مشكلتي مع الحريري”. أمّا سليمان فرنجية فلم ينسحبْ من معركة الرئاسة رغم تأكّدِه أنّه لم يعدْ يحوزُ الغالبية، وقرّرَ الانضمام إلى جبهة المعارضة أيضًا. اكتفى
وليد جنبلاط بموقف احتجاجي لعدم مشاركته في القرارات التي تتلاحق، لكنّه أضاف “إذا كان لا حلّ إلا بانتخاب العماد عون فلنذهب إليه”.

من جهتي، كنتُ مقتنعًا بأنّ اثنين يخوضان مغامرة سياسية صعبة:
سعد الحريري لانّه قرر انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية، ونبيه بري لأنّه قرّر عدم انتخاب ميشال عون.

…وفي 24 تشرين الأول، استهلَّ عون نهارَه باستقبال قيادة التيار الوطني الحرّ في الرابية وأطلعهم على كلِّ المستجدات وأكَّد لهم أنَّ الاثنين المقبل في 31 تشرين الأول سيكون يومَ انتخابه رئيسًا للجمهورية إلا إذا حدثَ أمرٌ كبير وخطير وهذا ما ليس متوقعًا. ثم شكرهم على دعمهم أفرادًا وجماعة.

كان الجنرال عون أنجز قبل أيام خطاب القسم الذي كتبَه بيدهِ، وكانَ الجزءُ الأكبر منه كتبَه عندما وافقَ الحريري على ترشيحه. وبدأ الجنرال يوضِّبُ أغراضه الخاصة تمهيدًا للانتقال من الرابية إلى القصر الجمهوري، وكان اليوم الأخير في الرابية طويلًا.

وأتى اليوم المرتجى الإثنين في 31 تشرين الأول 2016.

افتتح نبيه بري الجلسة، وأعلنَ أنَّ لا أحد من النواب معتذرًا أو غائبًا وعلّق: “انتظرنا هذه اللحظة سنتين ونصف”. بعدها تُليتِ الموادُّ الدستورية ووزّعت الأوراق على النواب فسأل نديم الجميِّل: “كم هو عدد النواب الحاضرين؟” فكان جواب رئيس المجلس: “127 نائبًا، والنصاب 86، والفوز من الدورة الأولى بـ 86 صوتًا، وفي الدورات التالية بـ 65 صوتًا في حال عدم حصول أحد المرشحين على الثلثين في الدورة الأولى”.

دارت صندوقة الاقتراع على النواب، والأنفاس محبوسة، وكان الرهان أن ينجح عون من الدورة الأولى. عند انتهاء التصويت، بدأت عمليّة فرز الأصوات.صعد مروان حماده وأنطوان زهرا لمتابعة الفرز، وشهدَ النائبان إبراهيم كنعان وإسطفان الدويهي على العمليّة. لم تمرّ هذه المناسبة من دون مفاجآت. كانت المفاجأة الأولى أنَّ العماد ميشال عون لم يُنتخبْ من الدورة الأولى فنالَ 84 صوتًا بدلًا من 86 في مقابل 36 ورقة بيضاء هي الأصوات المؤيدة لسليمان فرنجية، و5 أصوات مُلغاة تحملُ عبارة “ثورة الأرز مستمرّة في خدمة لبنان” وهي أصوات نواب حزب الكتائب اللبنانية، وصوت للنائبة جيلبيرت زوين، وصوت آخر لميريام كلينك وهي عارضة أزياء، وكان ينقص عون صوتان فقط لنجاحه من الدورة الأولى.

أعلنَ رئيس مجلس النواب المباشرة بدورة الاقتراع الثانية، والغالبية فيها 65 صوتًا وكان من المؤكد أنَّ عون سينال أكثر من 65 صوتًا. وكانت المفاجأة الثانية أنَّ أحدَ النواب أنزلَ في صندوقة الاقتراع مغلّفين بدلًا من مغلّف واحد فبلغ عدد المغلّفات 128 بدلًا من 127، مما شكّل صدمة للجميع. لم يحرّك عون ساكنًا. أمر بري بإجراء الجولة الثالثة فجاءت النتيجة عينها: 128 مغلّفًا. عندذاك قال بري: “لبنان كلّه يشاهدنا. وثمة سفراء بيننا. ما يحدث ليس مدعاةَ فخر على الإطلاق، هذا عيب”.

صمدَ الجنرال كأنّه في ساحة القتال، ورأى أنَّ في الأمر محاولة لتأجيل الانتخابات فأعطى تعليماته بالتهدئة وبضرورة إنهاء العملية الانتخابية على الفور مهما كلّف الأمر، وقابله نبيه بري الذي أمرَ بوضع الصندوقة في وسط القاعة وطلب من كلِّ نائب أنْ يأتي حاملًا مغلّفه بيده إلى مكان الصندوقة ليصوّت، وقد خضعَ التصويت لمراقبة مروان حماده وأنطوان زهرا اللذين أطلقت عليهما صفة “حرّاس الصندوقة”، وكان من المستحيل على أيٍّ من النواب أن يضع مغلّفين أمام أنظار النواب والحضور. وأخيرًا ضبطت لعبة المغلّفات وأعلنت النتيجة: 83 صوتًا لعون، 36 ورقة بيضاء، 5 أصوات ملغاة لحزب الكتائب، وصوتٌ لستريدا طوق، وصوت ملغى باسم “مجلس شرعي أو غير شرعي”، وصوتٌ آخر ملغى يحمل اسم Zorba.

لحظةَ إعلان رئيس مجلس النواب ميشال عون رئيسًا للجمهورية تحقّقَ التحدّي الأكبر بعد جلسة هي الأطول والأكثر كيديّة في تاريخ الانتخابات الرئاسية. استدارَ عون وحيّا النوابَ والحضور وتسمّرت عيناه لثوانٍ على عائلته وبخاصة على زوجته ناديا، فيما كان الحضور يصفّق داخل البرلمان. أمّا في الخارج فقد انطلقت الأسهم النارية والاحتفالات ومواكب السيارات والزمامير.

لا ريبَ أنَّ الاثنين 31 تشرين الأول 2016 يُعدّ "الاثنين الكبير" في تاريخ ميشال عون ولا مبالغةَ في هذه التسمية لأنَّ ما بعده يختلفُ عمّا قبله. لم يحدثْ في التاريخ الحديث أنَّ مسؤولًا أُخرجَ من السلطة بالقوة العسكرية ونُفيَ إلى الخارج، وعادَ إلى الوطن، وتبوّأ رئاسة الجمهورية بالطرق السلمية والديمقراطية بعد أكثر من ربع قرن على نفيه.

في تشرين الأول 1990، خرجَ عون من القصر الجمهوري من الباب الخلفيّ بالملالات وتحتَ القصف والتهديد بمحاكمته وسجنه وعادَ في تشرين الأول 2016 من الباب الأمامي، وهو يسير على السجادة الحمراء مكرّمًا ومستعرضًا الحرس الجمهوري الذي عزف له النشيد الوطني. وعندما سألتُه بمَ كان يفكّر وهو يدوس السجادة الحمراء الممدودة أمامه على بوابة "قصر الشعب"، أجابني: لم أكنْ أفكر، بل كنت أشاهدُ كلَّ فصول حياتي تمرُّ كفيلم سريع لن يتكرّر”.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم