السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

الكعب الأبهر لراهيم حسّاوي: فضاء الذات اللامبالية

المصدر: "النهار"
نبيل مملوك
نبيل مملوك
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-

في كتابها "تقاطع نيران" (دار الآداب- طبعة أولى 2012)، ترى سمر يزبك (1970-...) أنّ كتابة الرواية لا تحتاج الى خيال بل إلى واقع، وهذا ما جنح نحوه صراحة راهيم حسّاوي (1980-...) في روايته الكعب الأبهر الصادرة عن دار نوفل- هاشيت أنطوان (طبعة أولى 2022) مشكلاً منعطفاً في تقديم الواقع الاجتماعي من خلال التركيز على الذات وما تراه وسط السكون واللامبالاة واليأس واشتباك الأزمنة وتقاطعها، لنكون أمام رواية مبناها الحكائي يبدأ من خلال فنيّة ما يراه "نديم" المحرّر السوري النازح من بلده وماضيه نحو حاضره الصاخب بالتأمّل والمناجاة.

العاطفة الصادقة والإيقاع السردي

أراد الشكلانيّون الروس وعلى رأسهم بوريس توماشفسكي (1890-1957) أن يدرسوا النّص الروائي بعيداً من كل العلوم الإنسانية الأخرى، واعتبر رائد البنيوية فرديناند ديسوسير أنّ اللغة نظام قائم بحدّ ذاته، لكن جملة من النصوص التي ربطت الإنسان بواقعه وما آل البنيويون التكوينيون وعلى رأسهم لوسيان غولدمان (1930-1970 ) إليه من تعزيز الرؤية الكونيّة والوعي الممكن لدى المبدع وعدم فصل المبدع عن واقعه الإجتماعي دفعتنا الى مقاربة هذا النص من خلال " نديم" الشخصية الواقعيّة الحياديّة المشاعر والّتي قدّمها حسّاوي على أنها تتبّع الزمن عوضًا عن مناهضته، وقد قدّم هذه الرؤية من خلال تقنيّة المشهد السردية التي أثبتت أن الشخصية تتمتع بعاطفة صادقة ما زالت قادرة عن التعبير عن نفسها رغم الفتور النفسيّ "الذين لا يملكون شيئاً في هذا العالم، هم أكثر الذين يفكرون بمصير العالم..." (ص 7) أي أنّ الراوي المصاحب لكل ما سيلي من أحداث وحوارات قدّم نفسه على أنه خالي الوفاض، مرآة تعبّر عن ذاتها من خلال ما يدور في داخلها من بريق "هذا ما كنت أفكر فيه وأنا أشرب قهوة المساء" (ص 7).

ولعلّ الكاتب أصرّ أن يفصل بين تقديم حالة البطل وربطها بالواقع، فوقع في دوامة الإسهاب والتفصيل ليتجه نحو مبنى حكائي تقوم فنيّته على المناجاة من خلال تجسيد حالة نديم المحرر في إحدى دور النشر والقاطن في الحمرا "ابتسمتُ وأنا ميّت، ومنذ ذلك اليوم لم أخش الموت" (ص 8) هنا انسحب حسّاوي من منطق السرد إلى مسرحة الرواية وإضافة الدراميّة إلى نصّه عبر العاطفة الصادقة، التي سرعان ما تكشفت تفاصيلها من خلال ارتباط الوحدة السردية باسم ريّا الّتي يخال للمتلقي أنها حبيبة الصبا "...كان ذلك أول حب في حياتي، لوجه لم أحفظ سواه" (ص 8) لكن خطاب اللاوعي ترجم سرداً ليبرز أنها أخته التي كانت بمثابة تعويض له عن حالة أمّه، وكانت هذه الوحدة السرديّة مركب خبري عن نقص لدى نديم تبلور مذ أصبح يتيماً وافترق عن ريّا "استقرت ريّا في بيت جدي بينما أنا في بيت عمي..." (ص 9). هذا التقديم البانورامي لحالة الشخصيّة الأساس نديم التي تعاني ما تعانيه من وحشة ووحدة وصراع مستدام مع الذاكرة دفعت الكاتب إلى إدخال شخصيات أخرى مثل إيناس المرتبطة أيضاً بماضيها من خلال "مقهى قرطبة"، وما هذا الارتباط إلّا توثيق آخر لعاطفة صادقة لدى الشخصيات "السبب الذي يكمن وراء تسمية المقهى يعود إلى مدينة قرطبة الأرجنتينية التي هاجرت عمتها إليها..." (ص 12) لنكون أمام تقاطع بين الشخصيتين عاطفياً من ناحية الفقدان... أمّا جوليا ابنة إيناس فاختارها حساوي لتكون عاملاً مساعداً يحفز نديم على الخروج من عزلته العاطفية نحو مغامرة أخرى ومختلفة وما ترقب الكاتب لسلوكيّاتها وتوصيفه مقارنة بما فعله تجاه رنا إلّا خير دليل "وأشعر أنها تخشى قراءة الكتب المتعلقة بالأدب..." (ص 17)، و"مثلاً أستطيع أن أخمن كل ما ستفعله جوليا" (ص 20)، هذا الترقب السلوكي والتحليل المتتالي للسارد "نديم" يعيدنا إلى ما عبّر عنه فرويد على أن القيام بكل ما هو مراعٍ للأنا العليا فيه لبية لرغبة الأنا، ورغبة الأنا لدى نديم عبر عنها راهيم حسّاوي هنا من خلال اهتمامه بجوليا التي سبقها استرجاعه لعلاقته بشقيقته... الأمر الذي جعلنا أمام إيقاع سرديّ بطيء وقع الكاتب في شركه من خلال الابتعاد عن تقنية الحوار فكانت محاولة المسرحة (dramatization) غير مكتملة بفعل فائض الدراميّة وقلة الحوارات العاطفيّة مما يؤكد أننا أمام إيقاع سردي مشهدي بطيء يعكس حياديّة السارد وتجنبه للعامل المساعد "جوليا" والمعاكس "رنا" واحتكاكها العملي الاجتماعيّ  بزميلها المحرر.

إنفصال الأنا عن المجتمع

رغم أن صاحب رواية "ممرّ المشاة" رسم الشخصيات لا سيّما نديم على أنها شخصية نابعة من رحم الواقع لا سيّما الواقع السوريّ وما طبعه من أثر أسود على الفرد زاده من الشتات والبؤس والاكتئاب، إلا أنه عمد أيضاً إلى تأطير البيئة المحيطة بالشخصيات مقسماً ايّاها إلى طبقتين: الطبقة الأولى طبقة كبرى متمثلة ببيروت التي يسكن فيها الشخصيات ولا يتحرك الحدث أو الأحداث نحو ما بعد حدودها إلى حدّ أن اسم العاصمة بيروت تواتر غير مرة في الرواية وقد أوصلنا الكاتب أيضًا الى مرحلة تناسي المكان فقلل من ذكر اسم العاصمة أو حتى اسم المقهى لنكون أمام مكان مغلق يعبر عن انغلاق الشخصيات : أوّلا ًمن ناحية نديم "تركت النافذة ودخلت الى المطبخ... كان شعوري بالوحدة ينهال على وجه الجدران" (ص21)، ثانياً من ناحية إيناس: فقد عكس ارتياحها حول مصير الشقة ودخول السمسار كعنصر طارىء إلى تشبث أكيد بمكانها وتقوقعها فيه: "لا تقلق إنّها مجرد مسألة تتعلق بتقدير ثمن الشقة، ثمّة مشكلة بيني وبين أخي..." (ص 34)  وثالثاً على صعيد جوليا: الإنفصالية الهاربة نحو فضاء جديد: "أخشى أن تترك جوليا المقهى، فهي تفعل هذا حين تشعر بالضجر" (ص 35) وبصرف النظر عن رغبة الشخصيات أو عدمها بهذا الانغلاق إلّا أن تشبثهم بالمكان واختيار الكاتب لهذا المسار الحكائي ما هو إلّا دليل على رغبته في رسم فضاء مغاير، فضاء لذوات محايدة عن كل الصخب الاجتماعي المتواتر الذي كاد أن يتحول إلى سيرة ذاتية...

التشويق العبثيّ والنهاية المفتوحة

رغم قدرته على رسم مشهد روائي كاد أن يكون مسرحياً لو أن هذه الشخصيات تواصلت مع بعضها البعض بشكل متواصل وحادّ يطلق العنان لفلسفات ونقاشات عديدة، إلا أنّ التشويق سرعان ما فقد رصانته في الرواية حين بلغت نصفها تقريباً، فكلّ المناجاة والألم الذي عبّر عنه نديم جعله بالتالي يقمع الشخصيات بفعل عدم إقدامه على الاحتكاك الملتهب بباقي الشخصيات "ومهما بلغ المرء من معرفة، يصعب عليه اتخاذ موقف صريح حيال الحياة ..." (ص 73)، ولعلّ صاحب مسرحية "الرخام" (2011) اختار أن يكتفي بسرد ما يجري دون التعليق أو التدخل الخارجي أو الاحتكاك المفاجىء والمدوي بين الشخصيات فصرنا أمام قراءة ليوميات بعينيّ ساردها، بالاضافة إلى تشويق بين وحدة سردية وأخرى "شعرت بأني في دوامة صغيرة..." (ص 87)، "سمعت صوت السيدة إيناس وهي تصرخ" (ص 93)، وما استخدام الأفعال الماضية الا دفع آخر نحو تشويق عبثي لم ينتهِ إلّا بمزيد من التمهيد لسرديّة جديدة عادت بنا إلى صورة الكعب التي تكاد تكون أسطوريّة لولا عدم اكتمالها وترك الأفق لتساؤلات حول مصائر عاديّة "وسأظل أرسم دائرة صغيرة حول كعب قدمي وأقف عليه للحظات كما لو كنت ألهو فوق صخرة مرتفعة..." (ص 178) نهاية لبداية مهتزة لفقدان الدهشة وطغيان الروتين.

لم تكن رواية الكعب الأبهر إلّا وثيقة يومية ناجحة عن حال فرد اختار فضاء ذاته اللامبالية ليسبح به وهو في قمة الهذيان، لكن هل كانت الأصوات الروائية المنقولة عن الراوي ستغير مجرى الأحداث لو كانت تعبر عن ذاتها؟ أم الكاتب اختار التعبير عن أناه فتغدو باقي الشخصيات مجرد جمهور متفرج؟

الأجوبة تتعدد والأسئلة لا تنتهي طالما لم تكتمل صورة هذا الكعب الأبهر.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم