الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الحياة تحت الصفر لعبّاس بيضون: الانقضاض على الوحدة والعودة إلى الذات

المصدر: "النهار"
نبيل مملوك
نبيل مملوك
الشاعر عباس بيضون وغلاف الإصدار.
الشاعر عباس بيضون وغلاف الإصدار.
A+ A-

شكّلت الأعمال الشعريّة لعباس بيضون، والّتي تلت قصيدة " صور" تحديداً، مشهداً متسلسلاً ومترابطاً لمصارحة الذات الوحيدة أو مكاتبة الموت على الفراغ الأبيض. ولعلّ أعماله الصادرة عن دار الساقي لا سيّما الموت يأخذ مقاساتنا (دار الساقي– الطّبعة الأولى 2008)، صلاة لبداية الصقيع (دار الساقي – الطبعة الأولى 2015)، والحِداد لا يحمل تاجاً (دار الساقي، طبعة أولى 2019) شكّلت بدورها مرايا لتعاطي الشاعر النفسي والذاتي مع المتغيّرات البشريّة وتكريس الجمود.

في مجموعته الجديدة الحياة تحت الصفر (دار نوفل هاشيت أنطوان- طبعة أولى 2021 ) تمرّد عبّاس بيضون (1945) على الوحدة من خلال محاكاة ظاهرة يواجهها المجتمع أو الجماعة أو المجموع من البشر. اختار الوباء كي يتسلل من الحجرات، وفضّل التعايش مع موجوداته من خلال المعجم. هي مغامرة بدأت بذوبان في قلق الجماعة، فأفرزت شعراً تحت صفر أمل، وانتهت بالنكوص إلى ما تركته الشيخوخة والموت من رسائل واكتشافات.

الهروب المعجمي من الوحدة وسيميائيّة العناوين

يرى أندريه جيد أنّ الرّغبة هي التي تسيّر الإنسان، ولا سيّما الجنسيّة منها. وقد عزّز "جيد" من خلال مثله عن الغريزة الجنسيّة انزياحه التّامّ عن الوجوديّة التي توّجت بالحريّة وفكّ القيود، وبطريقة دلاليّة لا واعية  اختار عباس بيضون أن يهرب من وحدته بشكل مؤقّت إلى الميدان المرتبك (المجتمع)، حيث النزوح نحو التعقيم والكمامات والتباعد والحجر...

اختار صاحب "الحجرات" الخروج حين قرّر الجمهور الانكفاء والدخول، ولم ينسج الشاعر ثوب مغامرته عبثاً، بل كان معجمه هو الخيط والإبرة، الثقب والرّتق، الهروب والمواجهة، فعنوان القصيدة الأولى "منفيّ إلى غرفتي" يظهر حجم الاستسلام وحجم التشبّث بعكّاز الوحدة ومحاولة هشّة للمقاومة "لا يكفي أن أغلق الباب/ لقد مرّ (...) غالباً/ وترك على المقبض/نظرة ماحية" (ص 5). في هذا الانفعال واليأس والتلويح التركيبيّ بالعدميّة "وترك على المقبض/ نظرة ماحية"، استطاع بيضون مواجهته بتحريك كلّ الموجودات والمحسوسات... كلّ أدوات مقاومة الوباء، بمعنى أنّه هرب من هوّة العلّة الفرديّة المجسّدة باليتم الاجتماعي إلى العلّة العضويّة الجماعيّة المجسّدة بفيروس كورونا وأدواته "علينا أن نستعدّ لمغادرة أشباحنا/ التي لا نستطيع الخروج منها" (ص 7). هروب يرافقه إصرار وإيعاز، هو انخراط في جهاز نفسيّ للجماهير، كلّ ذلك ولم يغادر الشاعر منزله بل بقي في بيته يحاول تدريب جسده على الاحتكاك بسكون الموجودات المنزلية "أحياناً نحمل هذه الحياة المعارة إلى المطبخ/ حيث نقليها... ولا نعرف كيف تنقلب في الطبق/ إلى كمّامة تنظر إلينا" (ص 8).

لم يكن المعجم هو الأداة الوحيدة التي هرب من خلالها الشاعر من وحدته بل إن عودته الزمكانيّة اللاواعية كانت أداة مضمرة وقطبة مخفيّة، فقصيدة "الحمامة" وما يحمله هذا العنوان من سيميائيات وإشارات ترجعنا إلى الحمداني وحكياته مع الحمامة التي تنوح وهي في عزّ حريتها "أقول وقد ناحت بقربي حمامة"  بينما ترجمها لاوعي الشاعر "ألمكِ ينتقل إليّ/ إنّها أيضاً عدوى" (ص 11). هي أيضاً محاكاة لزمن مضى من خلال التناص الأدبيّ، وكما كانت عتبته الشعرية في هذه المجموعة، قرر بيضون المواصلة على نفس المنوال الهروب  والهروب ومن ثم الهروب "لنترك هذا الجسد/ يتابع الثرثرة المستمرة في داخله" (ص 17).

 هل هي تدريب على البوح بالندم، أم التحلي بالسكون وسط هذا النفور الاجتماعي؟

لا يمكن أن نجزم أن قصيدة  "النحّات" التي تعد زيارة قصيرة لعرّاب الوحدة... الموت هي بمثابة إجابة شافية على الإشكاليّة، لأنّ صاحب "خريف البراءة" كسر هيبة نقيض الحياة بمعانقة "انتظرتُ عبثاً أن أوجد مع التماثيل القصيرة/ التي صفّها معه/ سيكون صعباً أن تدفن معه" (ص 23)، هي مرحلة من إعادة تدوير العنف (بحسب توصيف خالدة سعيد لقصيدة صور) والعنف هنا جاء من خلال إعلاء صوت الحزن والرفض والانفعال... ولعلّ تسمية الأمور باسمها هو شكل من أشكال الهروب، خاصّة من خلال "النّسيم الأصفر" العنوان الذي حمل الثقل والخفّة، الدّاء والدواء... الهدوء والتوتر... اليقظة والاحتضار.

لم يكن عباس بيضون إدلريّاً أو فرويديّاً تجاه نفسه. اختار اللّغة وسيميائيّة بارت ليهرب من تسرير عتيق للمعنى إلى توثيق مسموع للّفظة وما وراءها.

متلازمة الموت والبحث عن العودة

قادنا "المحاط بكلّ الذين جعلوه وحيداً" الى حقل يضجّ بالإشارات والدلالات والمحاولات، لكنه ترك المتلقي يلهو بفضاء التمرد والمصارحة والوحدة والمعجم والوباء ليقفز وحيداً فوق سور الحياة نحو سور الموت الذي رأى فيه بيضون عودة ممنهجة نحو الذات، وإصراره على الضمير التكلم "نحن" وتوابعه هو إصرار أسلوبيّ لغويّ على تعميق الحديث عن هاجسه الشخصي  "جلد لا نستطيع بعد أن نجمعه/ ولا أن نفسّر اللّعنات فوقه" (ص 66)، وقد تضخّم هذا الهاجس حين أعلن رفضه القاطع للأمل "فقط البقاء عند الفجر الواحد/ الذي ينفث ضوءاً كاذباً" (ص 67)، هو اقتراب من مدواة الداء بالداء لكن بدون خطايا أبي النواس أو بودلير، بل برجاء يقدمه الشاعر على طبق الوصف لا الانزياح الشعريّ، ولقد حاول بيضون أن يخلق للآخر مأساة تجعله منزاحاً عن نفسه القلقة، من خلال انشغال ميتافيزيقيّ بارز "سقط ذلك الضريح على الغابة/ لكن السماء عجّت بالمدن" (ص 81) هو خروج مجدّد عن خط الوحدة لكنه تمهيد صريح لازمكاني للعودة إلى الذات، فقصيدة "مرثيّة مبكرة" تذكّرنا بجملة من المحاولات الشعريّة الناجعة للتصالح مع الموت كونه متلازمة  "هناك تلك الدعوة/ الشّبيهة بالانذار/ إلى أن يوافي الفراش..." (ص 84). ربط متعمّد للشّاعر بالموت، عامل يذكرنا بحواره مع الدكتور محمد ناصر الدين في جريدة الأخبار- ملحق كلمات (السبت 29 آب 2020)،  حين اعتبر الشاعر أن وفاة شقيقته هو إنذار شخصيّ له".

واذا كان نزار قبّاني قد اعتبر أنّ الحزن يخترع النساء، فانعدام الأمل لدى عباس بيضون دفعه إلى صناعة الذّكريات، صناعة ما يبقيه شاهداً على موته ويقظة ذاته في آن "على طول أيّامنا/ كان جلدنا مخبوزاً فيها/ وعلى مراحل بدّلناه أيضاً" (ص 101)، فإن تواتر الجلد في أكثر من قصيدة هو دليل ساطع على رغبة الشاعر في النكوص وتحديداً إلى ذاته فقط، كيف لا والأديم لفظة رديفة للجلد.

عبر عباس بيضون من جسر اللاقبول إلى جسر المساومة الواضحة مع الموت. استنجد بضمير الجماعة، وذاب عميقاً بها ليتابع حياته كأنّها حلقة مفرغة تعيده إلى هويّته وتشكّلها.

إذن، لم تكن "الحياة تحت الصفر" محاكاة جماعيّة فقط، بل ترتيب لانسابيّة الصورة والصوت لدى شاعر رأى في جدران منزله سراباً ملائماً لمكاتبة العالم... "الحياة تحت الصّفر" هي تقديم لطيف للموت من قبل شاعرٍ أحاط من جعلوه وحيداً بما عاشه ويعيشه وسيعيشه من قلق.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم