الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

خاطرةُ جَموح

"جايدن تقرأ كتاباً- بورتريه امرأة شابة" للرسامة الأميركية المعاصرة كارن ويتوورث.
"جايدن تقرأ كتاباً- بورتريه امرأة شابة" للرسامة الأميركية المعاصرة كارن ويتوورث.
A+ A-

ناهدة سعد

تفرّس كعادته كل يوم منذ ستة أشهر في الصورة المعلّقة في وسط الجدار. صورة ملونة تمثل صقراً عظيماً يجثم على ظاهر كفّ رجل لا يبين منه إلا يده وساعده وظلٌ لوجه كأنه ينعكس في مرآة.

مخالب الصقر تتمسك بقفاز مطاطي سميك يغطي كفّ الرجل حتى أعلى الرسغ. تبرز المخالب الحادة في الصورة كأنما هي تثقب القفاز المطاطي الأسود بقوة وعناد.

تتبادر إلى ذهنه، وهو يتأمل تلك الصورة، زوجته بأظفارها الطويلة المروسة، كما يتراءى له بروفيل وجهها الذي فيه، كما يحدّث نفسه، شيء من الشراسة والتوثب والجموح.

فجأة ينبض قلبه بين ضلوعه بخاطرة تقلقه.

لكم تأملها وهي مستلقية على الكنبة تقلّب صفحات كتاب، أو منغمسة في فكرة غامضة تمتلك عليها نفسها. كانت تلك الحالة تستهويه، فيتلذذ بمراقبة رفّة جفنيها وحركة شفتيها وتمازج الضوء وانعكاسه على وجنتيها وأطرافها وهي تقرأ السطور على ضوء المصباح الكهربائي الجانبي.

تستهويه أنوثتها، ومن عجبٍ يشدّه إليها بُعدُها، فيتملكه شعور خفي، أشبه ما يكون بالحذر أو الخوف؛ خوفه ربما من جموح تلك المرأة أو انزلاقها في متاهات غريبة ووعرة.

كم أرّقه ذلك الشعور، فهو أشبه ما يكون بلغز محيّر لا يرى له من تفسير.ويلحّ عليه الآن هذا الأرق كلما طال تأمله في اللوحة المعلّقة في وسط الجدار.

ثم يتذكر كيف مرضت في الصيف الماضي مرضاً بدت أعراضه كأنها كانت غريبة بعض الشيء. كان ذلك على إثر زيارة قامت بها إلى صديقة من صديقاتها في إحدى القرى الجبلية. فبدل أن تمضي الإجازة معه، كما هو المعتاد والمفروض، آثرت أن تبقى أسبوعين بعيدة عنه، متفلّتةً من روتين الروابط العائلية.عندما عادت إلى البيت، لبثت في فراشها مدة أسبوع قبل أن تعاود حياتها معه كالمعتاد. لكن شيئاً ما، لم يدرك كنهه، كان قد تغيَر فيها. لقد أصبحت كثيرة الشرود وكأنها تكلّمه من عالم آخر.

إلا أن شرودها ذاك، وجموحها في اتخاذ قرارات فردية، كانا، بالرغم من قلقه وخوفه، يستهويانه. هي أبداً، كما تهجس له نفسه،على وشك البدء بشيء ما، كأنها امرأة على مفترق طريق، على وشك أن تخطوالخطوة الاولى نحو المجهول،على وشك الإفلات والمضيّ إلى مكان آخر؛ مكان ما بعيد تحفّ به الأسرار، كرحلتها إلى قرية صديقتها تلك.

تلك المرأة، يهجس به الصقر الذي في الصورة، متوثبة دائماً، ودائماًعلى أهبة الرحيل. يتساءل في صمته عمّا إذا كانت الرحلة تنتهي دائماً بالإياب كرحلة ذلك الطائر الذي يظل يعود ليجثم على كفّصاحبه.

في لحظة انخطاف كأنها الصعق، تماهى في خياله الطائرُ والمرأةُ، وفي مثل خاطرةٍ جَموح تراءت له تنهلّ من كفّ الرجل في اللوحة قطراتٌ من دم قانيات.

 

 

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم