السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

كتابات إبراهيم شلبي جواز مرور للقيام برحلةٍ ثلاثيّة الأبعاد

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
مجموعة كُتُب الدّكتور إبراهيم شلبي.
مجموعة كُتُب الدّكتور إبراهيم شلبي.
A+ A-

من أجمل الهدايا التي يمكن أن تحظى باهتمامي وتقديري هو الكتاب- ليس أيُّ كتاب... قد يكون شغفي بالقراءة وتهليلي للكتاب هو السبب في حصولي على العديد من الهدايا من هذا النوع، ومنها مجموعة كُتُب وصلتني مؤخّراً من مصر، من الطبيب والكاتب المصريّ إبراهيم شلبي، وهي تشكّل جزءاً مهمّاً من كتبه التي تربو على العشرين إصداراً.

إبراهيم شلبي الطبيب والكاتب

الدكتور شلبي- كما هو معروف- طبيبٌ أخصّائيّ في علاج الأورام السرطانيّة، انتقل من عالم الطبّ إلى عالم الكتابة ليعبّرَ من خلاله عن انطباعاته جرّاء ما عايشه من أحداث ومواقف خلال مزاولته مهنة الطبّ في قسم علاج الأورام بقصر العيني- جامعة القاهرة، حيث امتلأت ذاكرته "بالكثير من الأحداث والصور والمواقف"، وفق تعبيره.

حين استلمت كتب الدكتور شلبي سألته: بأيّ كتاب تنصحني أن أبدأ؟ فاختار مؤلَّفَه "جميلة" الذي يأتي الرابع ضمن مجموعة من خمسة كتب، تزيّن غلافَ كلّ منها صورةُ نوعٍ من أنواع الفاكهة التي تشتهر بها المنطقة موضوع الكتاب؛ ويتحمل جميعها عنواناً رئيساً مشتركاً: "من ذاكرة أرض ونهر"، وصادرة عن دار البلسم للنشر والتوزيع. لكلّ جزء من هذه المجموعة عنوانٌ خاصٌّ به: الكتاب الأوّل "عزيزة" 2014 (تزيّن غلافه ثمرة جوافة)، الكتاب الثاني "نغم" 2015 (تزيّن غلافه بلحة -ثمرة النخل)، الكتاب الثالث "سُوريش وراكشَندَة" 2017 (تزيّن غلافه ثمرتا المانغو والرمّان)، الكتاب الرابع "جميلة" 2017 (تزيّن غلافه ثمرة المشمش)، والكتاب الخامس "راميرو" 2021 (تزيّن غلافه ثمرة الأناناس)؛ وقد تناول في كلِّ جزءٍ بقعةً من  بقاع الأرض الشاسعة، متوقّفاً عند ما تحتويه طبيعتها من أنهار وجمالات، إضافة إلى أخبارها التاريخيّة البارزة والمهمّة، ومقتطفات من قصائد شعرائها!

 

رحلات ما بين الماضي والحاضر

إذاً، ليست "جميلة" سوى كنية ثمرة المشمش الأنطاكيّة، ذات الجذور الدمشقيّة: "اِسمي جميلة.. اسم على مسمّى.. أنا ثمرة مُشمُش من أنطاكية... ولكن جذوري دمشقيّة... إذ استُحضرَت شتلاتي من غوطة دمشق إلى البستان الذي ترعرعت فيه في أنطاكية منذ نحو نصف قرن من الزمان..." (التعريف بالكتاب - الغلاف الخلفي). تمتازُ كتب هذه المجموعة بإخراجها الفريد المميّز، وتنوّع حروفها من حيث الشكل والقياس والتوزيع، وتقسيم صفحاتها وخطوطها الذي يعيدنا بالذاكرة إلى مقاعد الدراسة وكتب القراءة والتاريخ والجغرافيا، لغناها بالرسوم والصور التي تدعم ما يسرده لنا الكاتب من أخبار مستقاة من تاريخ وتراث كلّ بلد أو بقعة أرض يتحدّث عنها. لا بدّ لك وأنت تقلّب صفحات كتب هذه المجموعة أن تشعرَ برغبة شديدة في قراءتها، تحثُّك على ذلك الرسوم الجميلة التي تكاد لا تخلو منها صفحة، فكأنّك تقلّب مجلّة أو موسوعة ثقافيّة مصغّرة، تنقل لك تفاصيل ومعلومات دقيقة عمّا تراه من صور.

حين باشرْتُ قراءة "جميلة" تساءلت: لِمَ اختارَها الكاتب من بين كتب المجموعة لأبدأ بها؟! ولم أجد جواباً سوى حبّه الأكيد، وتعلّقه الكبير بالبقعة التي تناولها في هذا الكتاب، حيث كتب في الإهداء: "إلى أخوال وخالات أولادي في ربوع سوريا الحبيبة"؛ سوريا التي لها مكانة خاصّة في قلبه، لا سيّما أنّ دماء زوجته السوريّة- كما دمه المصري- تجري في عروق أولاده. نلمس هذا الحبّ الصادق في حديثه عن دمشق: "هكذا كانت دمشق بنهرها وغوطتها وعروبتها... بنفحات إيمانها وعراقة تاريخها وحجة علمها وعذوبة أشعارها... دمشق التي أضاءت قلوب الأجداد وامتد سَنَا ضوئها لينيرَ حياتنا..." (ص 43)، "إلّا أنّ هذا الحبّ للأرض والنهر (عند إبراهيم شلبي)- كما تقول لينا كيلاني في مقدّمتها لكتابه "جميلة"- لم يقف عند أسوار دمشق، أو حدود سوريا، بل تفرّع في الذاكرة..." فعند متابعتنا لكتاباته، لا بدّ لنا من أن نلمسَ انفتاحه على العالم أجمع، والحسّ الإنسانيّ الطاغي لديه، والوعي الكبير لواقع الإنسان وما يحيط به من قيود؛ وكأنّه يسعى من خلال كتاباته لنشر التوعية، والتأكيد على أهمّيّة إشغال العقل والعاطفة النبيلة، كي تنتصرَ المحبّة وينعم الإنسان- كلّ إنسان، إلى أيّ طبقة انتمى- بالأمان والسلام. ولا بدّ هنا من أن نشيدَ بثقافة شلبي الواسعة، في الشعر والأدب والتاريخ، لا سيّما تاريخ وثقافة كلّ منطقة تناولها في كتب مجموعته "من ذاكرة أرض ونهر".

رحلات إلى عوالم فكريّة مرصّعة بلآلئ الفكر الإنسانيّ الراقي

لا بدّ لي من التوقّف أيضاً عند مجموعته الثانية "رحلات وسيم في عالم أديب وحكيم" المؤلّفة من ثلاثة أجزاء (صادرة عن دار البستاني للنشر والتوزيع)، والّتي تجري ضمن إطار موحّد؛ فالشخصيّة الرئيسة فيها صبيٌّ مراهق اسمه "وسيم"، لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، شَغوف بالقراءة، وفي كلّ مرّة يحظى بهديّة مجموعة من الكتب لشخصيّة أدبيّة معروفة، تزوره هذه الشخصيّة ويقوم معها بنزهة يَجري خلالها حوارٌ بينهما، أَخرجه الكاتب بإتقان، بحيث رسم أجواء تتلاءم مع الأفكار والنصوص أو الاقتباسات التي اختارها من كُتُب مرافقه، موظّفاً هذه المشاهد لنقل فكر الأديب الضيف وتقريبه من ذهن القارئ، لا سيّما إذا كان هذا القارئ في مثل سنّ وسيم. في الجزء الثاني من المجموعة، تناول الكاتب أربع شخصيّات أدبيّة مهمّة: الأديب المصري نجيب محفوظ، الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبري، الفيلسوف والطبيب المصري مصطفى محمود، والكاتبة السوريّة غادة السمّان. القاسم المشترك الطاغي عند لقائه بأولئك الأعلام، تركيزه على عالم الحيوان لاقتباس الحكمة منه وتوظيفها في الحوار الذي يجري بينه وبينهم، بشكلٍ يخدم الجانب الإنساني.

 
 قد يبدو الحوارُ في اللقاء الأوّل مع الأديب نجيب محفوظ توجيهيّاً بعض الشيء؛ إلّا أنّه يأتي في ترجمته للقاء الأمير الصغير بالثعلب، المقتبَس من قصّة "الأمير الصغير" للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبري، مطواعاً سلِساً، يعبِّر بشكل انسيابيّ، مختصراً فلسفة الكاتب الفرنسي ونظرته للعلاقات الاجتماعيّة؛ كما يلفتنا اختياره المقصود، ربّما، أو الذي أتى صدفة، لهذا الكاتب الذي استوحى موضوع كتابه من الصحراء المصريّة بعدما "تعطّلت طائرته وهبط بها اضطراريّاً في صحراء وادي النطرون بمصر... وقد كانت هذه التجربة مُلْهِمة له..." (ص 50)؛ أيضاً يبهرنا بما استقاه من كتابات الفيلسوف المصري مصطفى محمود، التي تمتاز بالحكمة والعمق والوعي والجمال! ثمّ يختم بالحضور النسائي اللّطيف للكاتبة السوريّة غادة السمّان، ناقلًا لنا نظريّتها في الحب، وموقفها من العلاقات الإنسانيّة والحياة بشكل عامّ، وقد استعانت هي الأخرى بالطبيعة وحيواناتها (الببغاء، الفراشة...) تستقي منها الحكمة.

لا يتوانى الكاتب في نهاية كلّ لقاء لوسيم مع تلك الشخصيّات، عن تكرار جملة بعينها، على لسان ضيوفه، وذلك عند سؤاله لهم إن كان سيراهم ثانية؟ فيأتي جوابهم البليغ والذي يعكس إصرار الكاتب على ترسيخ هذه الفكرة في ذهن القارئ اليافع بالأخصّ: "أنا موجود دائماً في كتبي... اِقرأها... ستنقلك إلى عالمي، وستجدني بانتظارك".

كما حرص على تخصيص صفحة لصورة ضيفه، وصفحة أخرى لأشهر إصداراته، بحيث يهدي القارئ إلى عناوينها ليبحث عنها ويلتقي بكاتبها من جديد من خلال فكره وكتاباته.

مَن يدخل عالم إبراهيم شلبي الأدبي، يكون كمن يحظى بجواز مرور للقيام برحلة ثلاثيّة الأبعاد، متنقّلاً، من جهة، ما بين الماضي والحاضر عبر الجغرافيا والتاريخ (أفقيّاً وعموديّاً)؛ ومرتحلاً، من جهة أخرى، إلى عوالم فكريّة مرصّعة بلآلئ الفكر الإنسانيّ الراقي، الذي تتوق إليه كلّ نفس لامست الوجع الإنسانيّ وتألّمت لألمه. لقد سعى إبراهيم شلبي جاهداً، من خلال كتاباته، لإنارة الطريق لكلّ قارئ، ليهديه إلى الخير العامّ، ويرشده إلى السعادة الحقيقيّة الكامنة في عمق أعماق كلّ نفس بشريّة، بهدف حثّه على تفجيرها من ينابيعها لتفيض وتروي كلّ ما ومن تمرّ به.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم