السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

رسالة النّور لمحمد طرزي :" رحلة في عالم التقنيات الأدبية والتاريخ"‎‎

المصدر: "النهار"
نبيل مملوك
نبيل مملوك
غلاف الرواية.
غلاف الرواية.
A+ A-
أراد محمد طرزي لروايته "رسالة النور" الصادرة بطبعتها الأولى عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" (2016) والصادرة بطبعتها الحديثة عام 2021 عن "الدار التونسيّة للكاتب" أن تكون عصارة لحقائق تاريخيّة بقالبٍ روائيّ أدبيّ، وهو ما ليس بغريب عن طرزي الذي استفاد من المكتبات والمخطوطات التاريخية لصياغة أغلب أعماله الروائية. لكن المفارقة أن "رسالة النور" جمعت بين المغامرة والمعرفة، التكتيك الأدبي والبحث التاريخي. إنها مزيج تواصليّ إبداعيّ يجسد حكاية ابن المقفع بين بلاد الشام والعراق، البحّاثة الراغب بالتواصل مع العلماء والخلفاء لتحقيق غايته العلمية والمعرفيّة. وكون الرواية تجمع بين التوثيق التاريخيّ والنسج الحكائي، تغدو الأدوات والتقنيات التي استخدمها الكاتب لتعزيز بنية النّصّ مادة دسمة لمقاربة الرواية من زاوية سرديّة وبحثيّة من جهة ومن زاوية اجتماعيّة تاريخية من جهة ثانية.
الراوي والرؤية السردية
من البديهيّ أن يكون الراوي هنا عليمًا غائبًا عن المسرح الروائي، وقد استطاع طرزي أن يجعلَ وظيفة الراوي سرديّة تنشغل بإعداد بنية النص من خلال تقنيات عديدة،أولها الوصف الذي رافق بظلالٍ خفيفة السرد المتأرجح بين ولادة السبب وانطلاقته والوصول فيما بعد إلى النتيجة، أي الحدث، ممّا جعلنا في بادىء الأمر وبدايته أمام لوحة أدبية بحتة كرّسها مطلع الرواية بوضوح عبر رسم العناصر الطبيعية المزخرفة للمكان والحقبة الزمنية المرجو تعريف المتلقي إليها "وسط الأشجار الباسقة وتحت سماء صافية تتلامس فيها أطراف الغيوم"(ص.11)، "دخل قيصريّة التجار... تطلع الى قوارير العطور والمشغولات الذهبيّة." (ص.12). وقد قدّم الوصف المصاحب للعمليّة السرديّة التي ولدها الكاتب إلى جانب التمهيد للأحداث وتقديم الفحوى المرجو انخراط المتلقي في تفاصيله صورةً واضحة عن تنوع طبيعة أغلب الأمكنة التي ستحكم النص، فالمكان ابتدأ مفتوحًا، تمثلاً بالطريق الذي سلكه التلميذ ابن المقفع وظهر مغلقاً حين استقرّ ابن المقفع في قصر الخليفة "غداً يلتقي عبد الحميد الكاتب في قصر الخليفة"(ص.14).
فضلاً عن الوصف، فإنّ تقنية الحوار أو الأسلوب الحواري كان حاضرًا الى جانب العمل السردي ليكون بذلك عاملاً موضّحًا ومفسرًا لما ستؤول اليه الأحداث والنتائج، وان التساوي بين تقنيتي الوصف والحوار داخل العمل السردي رغم غياب الشعريّة سهّل تقارب الوحدات السرديّة فيما بينها أي بشكل أدق جعلنا أمام سلسلة أحداث متتالية "كل ما أتمناه أن تتاح لي فرصة وضع رسائلي في الفكر والإيمان... لمَ لا! سوف يتسنى لك ذلك بلا ريب" ( ص.58)
اتّسم إذن العمل السرديّ لدى طرزي، بقيادة راوٍ عليم هو السارد نفسه الجالس في كواليس صناعة الأحداث المتتالية عبر وحدات سرديّة صنعت ما سمّاه محمّد تحريشي في مقاله "السلطة والمثقف في رواية رسالة النور" في جريدة الجمهوريّة " السرد التراثي" الذي كان غايته توثيق الأحداث وتقديمها بهالتها الزمكانيّة التشويقيّة عبر قالب أدبي هو الرواية التي كسرت اللغة البحثيّة التاريخية بلغة روائية تمثلت بتقنيتي الوصف والحوار.
إبن المقفع : المثقف المتحرّك
قدّم طرزي ابن المقفع الإنسان بدلاً من تقديمه على أنه الشخصيّة الأكثر شهرةً وأكثر ترسخًا في اللاوعي الجماعي ، فقد كانت الرواية الحِرفة الأساس في رسم إبن المقفع التلميذ الرحالة بين دمشق والعراق من جهة وهذا ما يسوّغ تقسيم الرواية إلى كتب (كتاب دمشق، كتاب الكوفة، إلخ.) ومن جهة ثانية، إظهار ابن المقفع المتآلف مع السلطة والحائز على مكانته الثقافية بسلاسة الأسلوب وحسن السمعة "أبحث عن عمل/ لبيك/ ليس أي عمل. أشتهي أن أصير كاتبًا في دواوين الخلافة!ّ" (ص.21 ). وهذا المثال الحواري رغم إشارته إلى صورة عن ابن المقفع الساعي إلى تحصين ذاته المثقفة من خلال عمل تجعلنا أمام مشهد تخييلي ذكره الدكتور محمد آيت ميهوب في تقديمه للطبعة التونسية للرواية عن دار التونسية للكتاب "في مقابل اقتحام الخطاب التاريخي الخطاب التخييلي، نجد تلاعبًا مستمرًا من التخييل بالوقائع والشخصيات" (ص.15). هذا التلاعب هو الذي جعل الشخصيات متحركة لا سيّما ابن المقفع الذي بات داخل النص حرًّا يتجول ويدور حول الطوق التاريخي الذي كُتِب له، فانتقل من الراغب بمركز سلطوي لامه عليه عبد الحميد، إلى قاضٍ يحكم بالعدل والعلم، على حدث اجتماعي إثر وصول ابن المقفع الى الكوفة، يعتبر آنذاك بمثابة خضّة للأعراف والذي تمثل بمحاولة هروب جارية من بيت سيّدها ليصبح بذلك وبشكل لاواعٍ قاضيًا دخيلاً غريبًا "ومن تكون أنت لتعاقبها/ أخال أنك غريب هنا! أغرب عن وجهي وإلا حطّمت رأسك"(ص.71). هذا التحول من المثقف الساعي إلى المنصب ومن ثم العاشق الذي هام في جاريته الى قاضٍ للحظات بسيطة أنقذه فيما بعد "واسطته الشاميّة" والرسالة التي يحملها الى الخليفة جعلتنا أمام مثقف متحرك ، قدّر له أن يكون قائد مغامرات لم تحسب عقباها.
الغنائيّة والحوار الداخلي: ولادة عنصر أدبي جديد
لعلّ اتجه الكاتب إلى الصوت الروائي الواحد، وهي التقنية الكلاسيكية لرسم النص الروائي، إلّا أن طرزي قد ترك لابن المقفع هامشًا من الحريّة متمثلٍ بهدنة بينه وبين الزمن من جهة وبينه وبين الأحداث التي صاغت تحولات مصيره من جهة ثانية، فاليوميات التي كان يكتبها ابن المقفع في غرفته ما هي إلا محاولة منه لفهم المشهد وتوثيقه، بالإضافة إلى كونه حوارًا داخليًا يشكل متنفسًا لشخصية كتب عليها عدم الاستقرار والمغامرة :"حين اختلى عبد الله بنفسه أطال التفكير في كلام مضيفه. فتح كاغده بعدما أسرج قناديله. غمس الريشة في الدواة وخط الكلمات التالية..."(ص.26). وهذا ما يؤكد ما توصل اليه الدكتور محمد سيد أحمد متولي في دراسته الأكاديمية "المثقف والسلطة: استدعاء إبن المقفع في الأدب العربي المعاصر " حول كسر النمطية التاريخية: "لا شك في أنّ محمد طرزي لم يكن يهدف الى كتابة رواية تاريخية تسجيلية عن إبن المقفع وزمانه، ولم يكن يهدف إلى تعليم التاريخ، وإنّما كان هدفه الأصيل هو استلهام هذا التاريخ ..."(ص.2 من الدراسة المنشورة في مجلة كلية الآداب-الاسكندرية)، مما ساعد في توليد عنصر العاطفة الذي تجسد- إلى جانب المشاهد الرومنسية مع الجارية في دمشق- من خلال المناجاة والكتابة اليومية لتكون شهيدة على الأحداث وموثقة لها.
إذن، الرواية التي صدرت بطبعتها الحديثة عن "الدار التونسية للكتاب" تحمل في طياتها البعدين الأدبي والاجتماعي، وهي كسر وتمرد على السيرة الذاتية التقليدية، ودعوة لكل متلقٍ للنزوح نحو كتابة الشخصية الأساس خارج اللاوعي الجماعي لكن ضمن نطاقها الواقعي.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم