الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مشاكل المرأة الإفريقية في رواية عائشة بنور "الزنجية": صرخة بوجه العطب

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
غلاف الرواية وكاتبتها.
غلاف الرواية وكاتبتها.
A+ A-
 
 تسلّل اكتئاب المشاعر إلى العروق والملامح، عندما عانقت الكلمات عاصفة الحبر الملوّع، لتصحو في محطات الزمن، التي تحمل في أحشائها أقدارًا واهية لمن غامر عبر الكثبان من أجل الرغيف. فقد رسمت رواية "الزنجية" للروائية الجزائرية عائشة بنور، الصادرة حديثًا عن "دار الخيال للنشر والترجمة" في الجزائر، رسمت أحلام الوهم حين تهادى الوعد خاشعًا في الظلام، ولم تنجلِ الغيوم بين المنافي الباردة والقلوب البائسة.
كل من دحرجهم الألم وعوز الرغيف من قلب الصحراء إلى خواء الرجاء، كان سرهم حول البئر النيجيرية، التي ضمّت الإشعاعات النووية والتلوث والجفاف و"ظلم بني القربى". بئر لم يُعرف من حفرها، لكنه عُرف من لوّثها، وكأنه يريد أن يستمر في رفض حق الدول الغنية على الدول النامية. بئر ارتدت ربطة عنق رثّة حبلًا يطوّق عنق دلوٍ، حتى تتساوى مع من يستسقي من الألم والمرض.
 
كاتبة رمت الأقلام سهامًا على الظالمين، الذين حطموا قلوب المستضعفين. رأت وروت قصّة العذارى يركضن كأنهنّ قتلى، "أمّا اليوم فالحياة قد هزمتني منذ نعومة أظافري وسرقت ابتسامتي كطفلة تعانق الحزن والألم، منذ صرخاتها الأولى على شفرة السكين". فهذا حصاد الجهل في حفلات استئصال البظر، ولم يكن من غناء، بل صرخات طويلة قاسية، كالضباب الهارب من قيظ الهاجرة.
 
لم تعرف بنور ماذا فعلت، ولم تعرف ماذا جنت، ولم تعرف ذنبها. لكن من قرأ في كتابها عرف أنها أهدت البائسين قلبها ضمن غلافه. أرادت أن يُنسج وجه الفرح ليدفن ظلم الليل. لم تدفن الشقاء في البئر كما الغيرة مع يوسف الصدّيق. فكانت البئر تنظر إلى البائسين شذرًا وكأنها هي من سيقتلهم، فهم لم يعرفوا شعور الماء الملوّث الذي يعرف قصّة هروبهم قبل حدوثها، ويعرف أن بعضهم سيبرك، وبعضهم سيموت، وبعضهم سيركض، وبعضهم سيدفن على وجه الرمال، وبعضهم سيسير كما المهاري في بحور رمال الصحاري بدون بشائر إدراك الخلاص، "لهذا كنت أثرثر مع نفسي، أقف عند حافة البئر، وأنظر إلى طوابير النساء الموجوعات، وهن يتزاحمن عليها من أجل قطرة ماء".
 
لأن البئر شحيحة، كانت صورة القعر بعيدة، بُعد الحياة الكريمة في أقل مقوِّماتها. وقف طالبو الإرتواء على الحافة، فإنهار عليهم الماء ضربًا بسياط المرض والإشعاع المميت. كيف سيبتسمون إلى البئر وماذا سيخبرون حبْلها وخرزتها؟ هل هم حقًا مذنبون؟ هل هم حقًا تيتّموا من أبوة عصبة الأمم، والأمم المتحدة، والقمّة الإفريقية، والجامعة العربية، والجمعيات والإرساليات الإنسانية التي بلا حدود جميعها، وهل هم ضمن هذه الحدود، وهل سمع حكّامهم باتفاقيات (بّازل) الخاصة بإنتقال النفايات عبر الحدود؟، "الموت حصد العديد من الناس بسبب إشعاعات منجم آرليت، وشدّة التلوث البيئي بالمخالفات الذرية، والتلال المتراكمة من النفايات السّامة، والمياه الملوّثة قضت تقريبًا على كل شيء ينبض بالحياة".
 
وصفت الكاتبة في بدايات روايتها، الواقع المشؤوم لشخصيات الفتيات الأفريقيات عمومًا والنيجيريات خصوصًا، ودخلت في أَبعاد أرقهنَّ قبل عملية استئصال البظر بطريقة همجية بدائية موروثة من تاريخ متوغل في القدم، لا تراعي القواعد الصحيّة، ممّا أدى إلى وفاة بعضهن. كما ولجت إلى ألمهنَّ ومعاناتهنَّ بعد هذه الممارسة غير الإنسانية، التي جعلت المرأة الإفريقية عمومًا أمام قدرها.

بأسلوب فريد، وقدرة كتابية رائعة تجلّت في إدراك محدودية قدرة الأفارقة بالتخلص من قيود التاريخ التي تدمي النفوس. طرقت بنور أبواب مجاهل محرّمات اجتماعية منغلقة عل مورثات مرتهنة للمنحى التقليدي. لم تدخل في التسميات التي تصف هذه العملية كمسمى "تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية" التي تستخدمه منظّمات كثيرة لحقوق الإنسان، أو مصطلح "قطع الأعضاء النتاسلية الأنثوية" الذي يستعمله النشطاء والمدافعون عن الحقوق الصحية لإظهار الأخطار المرافقة لهذه العملية. بل تخطّت التنظير والفرضيات التي تجهل الصيوان الذي سيتلقفها. وذهبت مع عطش الأرواح إلى لهفة حبّ وشوق اِفتتان قلوب، وألم عذارى صغيرات يضاهي ألم المخاض، بعد ممارسة مستهجنة من الإنسانية مفروضة من قبل العشائر والقبائل الأفريقية، هذه الممارسات التي جعلت الأحاسيس تحتضر في النفوس، خرقت باب الفناء الذي يؤدي إلى صحارى موحشة تسكن القلوب.
 
لم يولد الحزن للناس جميعهم، بل وُجد لشخصيات رواية أجسادها بُعثرت فوق الرمال وطرقات المنافي. فارتحل الشقاء مع الهاربين إلى كنف الشقاء، وهربت الأعمار من حكايات بين الكثبان والثلوج، فلم تتعانق القلوب التي أصيبت بعقم الحبّ، من شدّة ما أصاب أصحابها من فرط الألم بعد جولة السكين في الأماكن الحميمة. فقد جمعت الكاتبة بين فقدان الشعور والإحساس من جراء استئصال البظر التي جعلت الجسد في غربة عن الشغف، وغربة الإنسان عن الوطن وإصابته بالخيبة واليأس ووحشة النهايات.
 
المراهقات اللواتي جالت السكين في أجسادهن خلال "ختان وحشي"، من الصعب أن يتخيلنّ انه من الممكن تعويض شيء مما حرمن منه، خلال مسيرة حياة ازدادت بؤسًا على بؤسٍ. فبالرغم من سعادة قارة إفريقيا بشقائها، كانت التسميات في الرواية دليل على حب الأرض المعذّبة، فأسماء أشخاص الرواية تفصح عن قبول الشقاء برضى، "بلانكا" تعني الفتاة سوداء البشرة مقابل بياضها في أوروبا. "فريكي" تعني البرد والخوف حسب حاشية الكتاب مقابل الأمان الاجتماعي شمال المتوسط. أمّا "إفريقيا" إسم ابنة بلانكا أتت تسميتها تعبيرًا عن الحرص على الإنتماء، لكن الخوف عليها من شفرة السكين واستيقاظ الألم الدفين والصراخ والأنين, وقسوة عجوز ختنت بوحشية مجتمعًا برمّته وأفقدته الأحاسيس، جعل الرحيل هروبًا واقعًا بالرغم من وحشة الغربة، "كنت أحسبه عالمًا مثاليًا، لكن بعد رحيلي عن حيِّزي الرَّمليّ، اكتشفت عالمًا أكثر بؤسًا وشقاء".
 
وضعت عائشة بنور المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، التي فنّدها بنفسه ولم يتعهدها، كإتفاقية جنيف بالنسبة الى أسرى الحروب، وشرعة حقوق الإنسان، واتفاقية (البّازل) بالنسبة للنفايات النووية والصناعية العابرة للحدود. هذا المجتمع الذي توغل بعيدًا في الفضاء، متجاهلًا مسار الإنسانية السائر في مجاهل التقاليد وسطوة المجتمع الذكوري الجاهل، كان بإمكانه رصد اليسير من ميزانية حرب النجوم، لتكون بلسمًا لأرواح معذّبة وأجساد فقدت الإحساس الجميل والشعور المرهف من جراء الجهل الموروث.
 
أشبعت الكاتبة القارئ حبرًا تأرجح فكرة رحيل بين صحراء وبحر، ووُشِم قدرٌ على كثبان متحركة، حيث لا أقحوان يبتسم، ولا سنونوة في الأفق تعانق قبلة متوردة بوعد حبّ، ولا انبلاج طفيف لمعجزة. بل مدن اغتراب شديد، في رشفة ماء ملوّث، ورغيف هارب من أقدار أجساد فقدت البوح العذب والافتتان المفقود، الذي يراقص الموت والمدى حتى العلى على شفرة السّكين. فكانت روايتها الرائعة "الزنجية" صرخة مدوّية بوجه العطب البنيوي الاجتماعي، الناجم عن ثقافة وممارسات تُعلي الجهل والمآسي والخيبات وتدعو إلى القنوط واليأس الموروث منذ عهد الفراعنة، فأين قوة الوعد في ميثاق الأمم المتحدة؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم