الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"الكعب الأبهر" لراهيم حسّاوي... عن "الذين لا أعرفهم ولا يعرفونني"

المصدر: "النهار"
من الغلاف.
من الغلاف.
A+ A-

تصدر قريباً رواية "الكعب الأبهر" للكاتب السّوريّ راهيم حسّاوي  عن دار "هاشيت أنطوان/نوفل". وفيما يلي مقتطف من الرواية.

"للمرّة الرابعة: 

إلى الذين لا أعرفهم ولا يعرفونني... 

صيف 2014 

الذين لا يملكون شيئاً في هذا العالم، هم أكثر الذين يفكرون بمصير العالم، حتى وإنْ كان هذا التفكير من دون جدوى، فإنّه لا يخلو من لمسة عزاء لهم، ويصبح بمثابة اللعبةوكلّ الألعاب نشأت بدافع عقدة الإنسان في ما يعجز عن تفسيره في هذا الوجود، فراح يخترعها، ويضع لها القوانين، ليشعر بمتعة ما جاء على يديه من معرفة. 

هذا ما كنتُ أفكر فيه وأنا أشرب قهوة المساء وقد تعرّقتْ أصابع يدي وهي تمسك بكوب القهوة قرب النافذة التي تُطلّ على مقهى قرطبة الذي تملكه السيّدة إيناس في منطقة فرن الشبّاك حيث أقطن. وعلى أثر هذا التفكير تذكّرتُ بعض الألعاب التي كنتُ ألعبها مع أختي ريّا ونحن صغار، وثمّة لعبة لا أنساها، تركتْ في نفسي أثراً كبيراً، لعبةٌ بورقة دفتر بيضاء، أحدنا يقوم بتشكيل شيء ما، فيأتي دور الآخر ليقوم بالتعبير والأداء بما يتناسب مع الشكل الذي تحوّلتْ إليه الورقة. شكّلتُ طائرة فأمسكتْها وطارتْ بها مقلّدةً صوت الطائرة، ثمّ فكّت الطائرة وأعادت الورقة إلى ما كانت عليه، وشكّلتْ زورقاً فأخذتُه منها وأبحرتُ به، جاء دوري فشكّلتُ مسدّساً فأمسكتْه، توقّعتُ أنّها ستطلق رصاصة وهمية نحو المصباح الكهربائي، لكنّها نظرتْ إليّ، وأطلقت عدّة رصاصات على رأسي، تمدّدتُ للحظات وأغمضتُ عينيّ. ابتسمتُ وأنا ميت، ومنذ ذلك اليوم لم أخشَ الموت، ولم أفكّر فيه على محمل الجدّ، لكنّي بقيتُ أعتقد أنّي سأموتُ بطريقة تراجيديةثمّ أعادت الورقة إلى ما كانت عليه، وشكّلتْ بوقاً وأعطتني إيّاه، انتابني الصمت للحظات، لم أعرف ماذا عليّ أنْ أفعل به، بعد لحظات تذكّرتُ أنّي شاهدتُ مثل هذا البوق في إحدى حلقات الرسوم المتحرّكة، وذلك أثناء توجيه نداء للناس في قرية نائية تقع بين الجبالأمسكتُ البوق وتوقفتُ وبدأت أدور في الغرفة التي كنّا فيها وأوجّه ندائي في كلّ الجهات: 

– أيّها الناس، أيّها الناس، أنا أحبّ ريّا. 

أمسكتْ ريّا البوق ووضعتْ طرف البوق من جهة الفتحة الضيّقة في أذنها، ووضعت الجهة الواسعة على قلبي، وصار البوق كما سمّاعة الطبيب، وقالت: 

 أريد سماع دقات قلبك. 

كان ذلك أول حبّ في حياتي، لوجه لم أحفظ سواه. ضحكتها تقودني إلى فكّ التفاصيل بعضها عن بعض، واستياؤها يقودني إلى ربطها، والنوم بجانبها يمنح الليل سكينة، والنظر إلى وجهها في لحظات ما قبل النوم يفتح باباً لشمس الصباح، والمكان الذي تكون فيه يملأ قلبي بالفرح. كانت، حين تركض إلى المطبخ لإطفاء البوتوغاز، يسبقها قلبي إلى ذلك، وأثناء ارتشاف الشاي كنتُ ألمح وجهها بعينين أتركهما فوق حافة الكوب، وأحياناً تتوافق نظرتانا من فوق حافة الكوبين ونحن نتقابل على طعام الإفطار. كنتُ أرتشف عينيها، وكنتُ أهتمّ بمكان جلوسها، فإمّا أنْ أجلس بجانبها فأشعر بكثافتي، أو أنْ أجلس في الجهة المقابلة لها فأشعر بامتدادي. وحين يقرع أحد جرس باب البيت وتسبقني في فتحه لا أنظر في وجه الزائر، بل في وجهها حين تستدير، وكأنّها هي الزائرة بعد فراق طويلوكنتُ أحبّ الشتاء لأنّه يمنحني أكثر الأوقات بقربها عند المدفأة، وصوت الرعد كان يهبني عطاياه حين يجعلنا نتبادل تلك النظرة المفاجئة، أمّا الربيع فكان يمنحني حبّ السؤال حين تغيب عنّي: 

 أين ريّا؟ 

أبحث عنها في الحيّ، وفي بيوت الجيران، والبعض ممّن أصادفهم كان يخبرني دون أنْ أسأله، فالكلّ بات يعرف أنّها ضالّتي، والوجه الذي أبتغيه. وكنتُ أرى أنّ الأشياء تأخذ مكانتها منها، وتتوسّطها، كالليل والصباح والظهيرةمنذ صغرها حتى بلوغها السابعة والثلاثين لم تزل مفعمة بالإحساس والمشاعر، وأصغر الأشياء تؤلمها، نظرة سيّئة إليها أو كلمة في غير مكانها تجعلها تشعر بالألم. وليس من عادتها أنْ تستعجل البكاء، تبكي في وقتٍ مفاجئ بعد عدّة أيام، وكأنّها كانت تقاوم مياه سدّ أصابته الشقوقحتى الآن، لا تزال ريّا تعلو فوق كلّ ما تراه عيناي، مثل قطعة خشب تطفو على الماء، فهي خلاصي السعيد، مثل آخر دولار في جيبي يكفي لركوب حافلة توصلني إلى البيت. 

كانت أمّي في الخمسين من عمرها حين أصيبت بمرض عضال استمرّ لسنوات، وكانت خالتي تهتمّ بها وبشؤون البيت بمساعدة ريّا. مرّتْ تلك السنوات ما بين المشفى ووجوه الزائرين في البيت، فلا ريّا دخلت المدرسة ولا أمّي عاشت. وبعد سنتين تُوفي والدي وعامل يعمل معه في شركة لبيع وتوزيع الحديد بحادث سيّارة أثناء عودتهما في ليلة ماطرة، ومع مرور السنوات استطعتُ أنْ أستوعب كلّ تلك الأحداث شيئاً فشيئاًهكذا، استقرّت ريّا في بيت جدّي، بينما أنا في بيت عمّي، وكانت المسافة قريبة ما بين البيتين، فكلّما خرجت من المدرسة أذهب إلى بيت جدّي لرؤيتها، وحين تفتح لي الباب، تسألني سؤالها المُعتاد: 

 ماذا تعلّمتَ في المدرسة؟ 

أجيبها عن سؤالها، وأرى في عينها حسرةً على نفسها، وفي العين الأخرى فرحاً لأجلي، ثمّ نتحدّث في أمور أخرى، ونفترق على أمل اللقاء في الغد، أو في وقتٍ آخر من اليوم ذاته. 

كانت حين تضع لي سندويشة في حقيبتي المدرسية تُخرج كتابي وترمق الحروف والكلمات، فتسألني عن حرف ما، تكتبه بإصبعها في الهواء أمامي، وتسألني عن نقطة حرف الجيم وحرف الخاء حين تختلط عليها، وتتأكّد من حرف قد راودها الشكّ حوله. ولم تكن ترغب في الحصول على دفتر خاصّ بها، فالمرء يرغب في أنْ تسير الأشياء التي يحبّها بطريقة قد لا تبدو على محمل الجدّ، كي يُخفي رغبته هذه عن الآخرين، وقد يُخفيها عن نفسه من باب المكابرة. وكثيرة هي الحروف التي شاهدتها مكتوبة بقلم رصاص في زوايا جدران المطبخ بخطّ صغير لا يكاد يُرى، وعلى إطار النافذة، وحافّات طاولة الخشب، وأذكر أول مرّة شاهدتُ اسمها مكتوباً بطلاء الأظافر على الحامل المعدني لهوائي التلفاز فوق سطح بيتنا. 

تربطني علاقة خاصّة بأسطورة كعب أخيل الذي عمّدته أمّه في النهر المقدّس، فقد أمسكته من طرف قدمه، وبلّلتْ جسده كاملاً، ولم تنتبه إلى كعبه الذي كانت تمسكه بيدها، وبعد ذلك مات في معركة طروادة بسهم في كعبه الذي لم يتبلّل بماء النهر المقدّسما حدث لي عكس ما حدث لأخيل، تعمّد كعب قدمي بيد ريّا، وبقي ما بقي منّي في شقاء الحياةفذات يوم وقعت على درج المدرسة، وشعرتُ بألم في كعب قدمي، أخبرتُ ريّا بهذا، وكان الوقتُ ليلة شتاءٍ باردة، والتلفاز ينشر ضوء شاشته بصوتٍ مكتوم، وكانت أمّي نائمة في غرفتها، وأبي ذهب ليوصل خالتي إلى بيتها، أمسكت قدمي وطلبتْ مني أنْ أحدّد لها مكان الألم وأنا ممدّد على الكنبة بالقرب من النافذة الواسعة كما اتّساع رغبتها في مسح ذلك الألم عنّي، أعطتني قلمَ حبرٍ، وللقلم رونق جميل حين يكون بيدها، من شدّة حبّها له، وطلبتْ منّي أنْ أرسم دائرة حول مكان الألم، فعلتُ ذلك، كانت دائرة بحجم قطعة نقدٍ معدنية، بدأتْ تُدلّك لي كعب قدمي بيدها، وشيئاً فشيئاً ودون أنْ أشعر سبحتُ في نوم عميق، وكأنّ الألم لم يكن، ومن بعدها صرتُ أرسم دائرة صغيرة على كعب قدمي بعد كتابة وظائفي، فقد أحببتُ تلك الدائرة، وأحياناً كنت أضع خطّاً في وسطها كما خطّ الاستواء، فتبدو مثل كرة أرضية صغيرةكذلك، كنتُ أحبُّ تمزّق جوربي من عند هذا الكعب، كان هذا يبدو مثل ظهور رأس حبّة فطر حين تتجاوز سطح التربةوبعد أنْ تجاوزتُ الثلاثين من عمري فكّرتُ ذات مرّةٍ في وشم دائرة على كعب قدمي في المكان ذاته."

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم