الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"التوصيل": عن رجل تحت المطر تحوّل فيلماً!

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
شخصية أرماندو في "التوصيل" لبدرو دياز.
شخصية أرماندو في "التوصيل" لبدرو دياز.
A+ A-
ينكر المخرج الإسباني الشاب بدرو دياز، صاحب فيلم "التوصيل" (24 دقيقة) الذي عُرض في مهرجان كليرمون فيران الأخير، أنه سبق أن أنجز ثلاثة أفلام قصيرة. "المعلومة على موقع IMDB غير صحيحة، هذا فيلمي الثاني فقط". ثم يجلس مع شريكه في الكتابة فران كاربالال أمامي في لقاء سريع للحديث عن هذا العمل الجميل المرشّح لجائزة "غويا" (جوائز السينما الإسبانية) لأفضل عمل قصير. يعرّفنا الفيلم على أرماندو، رجل في الثمانين من العمر، لم يخرج من بيته منذ سنوات، وذلك بعد تعرّضه لتروما سنكتشف فصولها تباعاً. صلته الوحيدة بالخارج، عامل توصيل يسلّمه مشترياته بشكل متكرر. يبدو ان أرماندو قطع صلته بكلّ شيء يجري خارج جدران بيته وأسوار الحديقة. لكن العالم الحالي لا يسمح بذلك خصوصاً في زمن الفضاء المفتوح. فحياة أرماندو ستتغير إلى الأبد، مرة جديدة، عندما يتلّقى كومبيوتراً من ابنه، فيبدأ بالنقر على المفاتيح إلى أن يعود إلى تصفّح صفحات من تاريخه الشخصي افتراضياً، مع أنه كان اعتقد أنها طُويت إلى الأبد ولم يبقَ منها إلا الذكرى الأليمة التي يعيشها من دون أن يشتكي، بل من خلال الانسحاب إلى عزلته. 

ولدت فكرة الفيلم من صورة واحدة وحيدة تقع في نهاية الفيلم. يروي دياز: "فران وهو شريكي في الكتابة رأى ما أصبح مشهد الختام: رجل يجلس تحت مطر غزير وكومبيوتره على ساقيه محاولاً البحث عن شيء ما". يتابع فران القصّة: ”كان ذلك قبل نحو تسع سنوات في أحد شوارع مدريد الصغيرة. شاهدتُ هذا الرجل ومعه كومبيوتر يضعه على ساقيه، وكان المطر غزيراً بشكل غير معقول. كان الجميع يحاول أن يجد ملاذاً من المطر سوى هذا الرجل. بدا عليه أنه يحاول التواصل مع أحدهم وكان المشهد مؤثراً جداً، إذ يجلس بالقرب من مطعم للاتصال بالانترنت. لم أتحدّث معه، إنما وقفتُ في مكاني لأتأمل الرجل وهو تحت المطر. عندما أخبرتُ بدرو بما رأيتُ، قال لي فوراً: "هناك فيلم في هذه القصّة. في البداية، لم أؤمن أن هذا ممكن". 

إذاً، مشهد وحيد ألهم الشابين لكتابة السيناريو، وهذا ليس جديداً في عالم السينما. العديد من السينمائيين سبق أن استوحوا فيلماً كاملاً بناءً على صورة. والعديد من الصور التي نراها في حياتنا اليومية أكثر الهاماً من صفحات طويلة من روايات، ذلك أنها تختزل وتختزن الكثير من المعاني والدلالات. ويتابع بدرو كشف التفاصيل: "بعد ذلك، واجهنا تحدياً وهو أننا بدأنا نسأل أنفسنا بعض الأسئلة في شأن الشخصية: من هو هذا الرجل ولماذا هو تحت المطر؟ لم نطرح عليه الأسئلة بل تخيلنا الأجوبة. شعرنا بمتعة ونحن نقوم بهذه الرحلة". 
 

بدرو دياز وفران كاربالال خلال المقابلة في كليرمون. 

الممثّل رامون باريا الذي يؤدي شخصية أرماندو ممثّل معروف ومهم في إسبانيا، لكن لا يعرفه كثر في الخارج نظراً لمحلية الأفلام التي مثّل فيها والتي يبلغ عددها ٢٠٠ فيلم وأكثر. "إنه ممثّل غير معقول وشخص جميل"، يقول بدرو، "في نهاية الكتابة كنت أفكّر فيه كثيراً، وكونك شاهدتَ الفيلم ستعلم كم شخصيته محورية. كيف يتكلّم وكيف يتحرّك وكلّ تلك الحركات الصغيرة بالغة الأهمية".

أرماندو من الشخصيات المثيرة التي لا تسلّم كلّ أسرارها منذ اللحظة الأولى. عليك أن تنقب في دواخله وتستشف دوافعه وتلتقط المسكوت عنه في كلماته. يؤكد فران انطباعي هذا قائلاً: "كان هذا مقصوداً، فهو جد قاس في البداية ولا يريد لقاء الآخرين، بل يحاول تضميد جراحه. لكن في النهاية، نتعرف على ما يتسبب له بالحزن ونحاول فهم ما يعانيه".

الفيلم عن الوحدة والتروما وكلّ ما يتجلى بوضوح في الطبقة الأولى، لكن كان عندي إحساس بأننا أمام نصّ عن مكانة الإنترنت في عالمنا الحالي. هذه الوسيلة التي غيّرت حياة رجل في الثمانين وساعدته للخروج من أزمته. يقول بدرو: "هذا صحيح. تحدّثنا كثيراً عن تأثير الإنترنت في حياتنا وفي حياة العجزة. فهو قد يكون مشكلة بالنسبة لكاتب لا يريد ان يكون نوعاً ما عبداً للتكنولوجيا الحديثة والرأسمالية، لكن من جهة أخرى لدينا هذا الرجل الذي يكتشف عالماً بفضل الإنترنت. لذا وددنا التحدّث عن استخدام الشيء لا عن الشيء نفسه. الإنترنت وسيلة لاعادة دمج الكبار في السن في مجتمعنا. لم نود التحدّث عن الرجل المسن كشخص فقد الصلة بالمجتمع. الأمر أعقد من هذا، هؤلاء في حاجة إلى أدوات للتواصل مع المجتمع. في إسبانيا لدينا نسبة عالية من المسنين، وهذه ليست مشكلة، المشكلة هي في عدم إعطائهم الفرصة للتواصل. والإنترنت والكومبيوتر أداة مهمة في هذا المجال".

أروي للشابين أن لي صديقا وهو اليوم في السادسة والسبعين، لا يزال يرفض استخدام الإنترنت. فيرد عليّ أنه يجب دفع هذا الصديق ليوافق على دخول العالم الافتراضي، من دون أن يعلم شيئاً عن محاولاتي المتكررة التي انتهت دائماً بالفشل. 

خيّم الموت على الدورة المنتهية من مهرجان كليرمون فيران الذي عاد إلى دورة حضورية كاملة محققاً ثاني أعلى إيرادات في تاريخه، وهذه حال "التوصيل"، حيث كلام كثير عن الموت والحداد. وهذا الموت أخذ معنى جديداً بعد الوباء، الذي لا بد أن نذكره بسبب حالة العزلة التي يعيشها أرماندو داخل منزله. يقول بدرو: "إنه عن التروما وكيف تتعاطى معها أكثر منه عن الموت. لم نتعاطَ مع الفيلم كشيء يتعلّق بالجائحة. فنحن كتبنا السيناريو قبل سبع سنوات، عندما لم يكن للجائحة أي وجود”.

يحملنا هذا إلى الحديث عن الجائحة التي ضربت العالم في شباط 2020. يتوجه بدرو إلى فران كاشفاً أنه سيروي له شيئاً للمرة الأولى: "واحدة من الصور الحزينة التي كنت شاهداً عليها خلال الجائحة كانت خلال نزولي إلى الشارع في مدريد لشراء الخبز. يومها، رأيتُ رجلاً من عمر أرماندو يقف على شرفة منزله ويراقب كيف ينقل عناصر الاسعاف زوجته المصابة إلى المستشفى. لا أزال أتذكّر تفاصيل وجهه، كان يبدو قوياً وعنيداً، وفجأةً لمحته يبكي. ربما صورة كهذه تسللت إلى عقلي الباطني وأنا أكتب".

سؤال يتكرر في كلّ مرة أحاور فيها سينمائيين عن أفلامهم القصيرة: ألا يمكن تحويله إلى طويل مع بعض الإضافات من هنا وهناك؟ "نحن في صدد هذه العملية"، يقول فران. "علينا أن نعيد كلّ شيء، لأن الفيلم الطويل رحلة مختلفة. الآن، بتنا نعرف الشخصيات. كثر سألونا ماذا سيحلّ بها لاحقاً. سنرى في الطويل تفاصيل لم نرها في القصير". 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم