الأربعاء - 15 أيار 2024

إعلان

حليم بركات حين حلم بالخروج من متاهات التقليد والغربة والاغتراب إلى الحقيقة والحداثة والحرّيّة (1933-2023)

المصدر: "النهار"
حليم بركات باحثًا عن الحرّيّة في عمل العقل، توليف فنّيّ لمنصور الهبر.
حليم بركات باحثًا عن الحرّيّة في عمل العقل، توليف فنّيّ لمنصور الهبر.
A+ A-
المفكّر الباحث الدارس المجتمع والاجتماع العربيّ - الانسانيّ، الروائيّ والقاصّ السوريّ اللبنانيّ حليم بركات، الذي غاب قبل أيّام (1933-2023)، أمضى عمره في مقارعة المتاهة، متاهة الفرد، والمجتمع، والواقع، والاستبداد، والديكتاتوريّة، والخيال، والحلم، والغربة، والاقتلاع، والانفصام، والتغريب، والاغتراب، والعقل، والنقد، بحثا عن الحرّيّة والحقيقة في الحداثة.

كلتاهما، الحرّيّة والحقيقة، رأى حليم بركات أنّ من المستحيل أنْ ينفصل التفتيش عن الواحدة، والوصول إليها، بمعزلٍ عن الأخرى. شقيقتان توأمان، هما الحرّيّة والحقيقة، كم تتماهيان وتتوحّدان، حتّى ليصعب التفريق والتمييز والفصل بينهما، ولو في لحظة افتراضٍ أو توهّم. طريقٌ واحدٌ، ومصيرٌ واحدٌ، يربطان بينهما، منذ أوّل الدهر إلى آخر ما يمكن أنْ يرتقي إليه العيش على هذه الأرض، من أحوالٍ وحضاراتٍ وعلومٍ وفلسفاتٍ وفتوحاتٍ معرفيّةٍ وإنسانيّة.
عرف حليم بركات منذ بدايات هجسه الفكريّ الثقافيّ المجتمعيّ الأدبيّ، أنّه إذا أراد أنْ يكون له معنى خصوصيّ، وأنْ يكون له موقع، في هذا الخضمّ الشائق والشاقّ، فيجب أنْ يختار "الشقاء" لا السهولة، في سبيل الارتقاء بوجوده الشخصيّ، وبالانسان الفرد، وبالجماعة المجتمعيّة، بل بالمجتمع، تقويضًا للاستبداد الشرقيّ، وصولًا إلى نور الأمل المعزّز بالشقيقتين، الحرّيّة والحقيقة.

أمّا "الشقاء" هذا، فهو المتاهة نفسها التي لا بدّ أنْ يتسلّح الخائض فيها بالعقل والمنطق والسؤال والبحث والتحليل والتمحيص، كي لا تمكر به تلك المتاهة المتعرّجة الدروب، والمتداخلة، والمشتابكة، والملتفّة بعضها على بعضها، فتفخّخ الأرض التي يمشي فوقها، فتجعله يضلّ الطريق، فتضيع منه الحقيقة وتضيع منه الحرّيّة.

لهذا السبب كتب حليم بركات ما كتب من أبحاث حول المجتمع العربيّ، وإنسانه، جاعلًا هجسه المعرفيّ، يتمحور حول الغوص على جوهر المشكل المستعصي الذي يعصف بالفرد والمجتمع العربيّين، مقترحًا على مَن في أيديهم وسائل التغيير، وعلى مَن تقع على عاتقهم مسؤوليّة هذا التغيير، كلّ الأدوات والمعطيات الموضوعيّة التي تمكّنهم من مباشرة الخروج من التقليد، تقليد الذات وتقليد الآخر، ومن التقوقع، ومن ربقة سلبيّات الماضي، من أجل العيش في الحاضر، والتفاعل مع وقائعه، والحلم بالوصول إلى المستقبل المنشود.

كانت السوسيولوجيا همّه، أكان موضوعها علم الاجتماع الجماعيّ والفرديّ (دور الفرد في المجتمع وفاعليّته في عملية التغيير)، أم كان موضوعها الأدب، رواية وقصّة. لهذا السبب، "شنّ" حليم بركات حملة شعواء على الرجعيّة والظلاميّة والديكتاتوريّة والاستبداد والعظاميّة، وعلى التقليد، شاهرًا رؤيته الحداثيّة، وتوقه إلى مجتمعٍ يتأسّس على المعرفة والعلم والغنى والتنوّع والتعدّد والاختلاف والسؤال والنقد، حيث يتمتّع الفرد ببحبوحة القدرة على المساهمة في عمليّة التغيير.

ولأنّ حليم بركات كان يعرف تمامًا أنّ "معركة الحداثة" هي معركة حرّيّة في الأساس، وأنّ الحرّيّة لا بدّ أنْ تفتح المعركة مع الاستبداد العربيّ، وأنّ ذلك يجب أنْ تفضي – لا محالة - إلى الحقيقة، ودون الوصول إليهما، الحرّيّة والحقيقة، مآسٍ ودماء وفواجع، آثر أنْ "يغترب" من دون أنْ يتنكّر لجذوره أو يقتلع منها. أبطال رواياته وقصصه (وبعضهم هو) يروون لنا شيئًا كثيرًا من مشقّات العيش العربيّ في أتونٍ من مختبر الأصالة والحداثة، من صراع الواقع والحلم، ابتداءً بمسقط الرأس في الكفرون، مرورًا بمختبر الحداثة البيروتيّة، حيث المدينة الملوّنة، انتهاءً بالموت في الغربة. وكم كان يقول لا بدّ من العودة. وهيهات!


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم