الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

بيروت: جمال غير متفّق عليه

المصدر: "النهار"
مشهد من الكورنيش البحري وظلالنا المُتعبة (لوحة لطوم يونغ).
مشهد من الكورنيش البحري وظلالنا المُتعبة (لوحة لطوم يونغ).
A+ A-
 
علي حمدان
 
إذا كان وَقع سميرة توفيق يكمن في صوتها، فإن شامة خد سمراء البادية الشهيرة هي توقيعها، أو الثابت البصري الذي ميّزها، من بعد غمزة عينها المغناج تلك، من خلف المنديل، والتي خلخلت جدّي وملايين جيله من المحيط الى الخليج. قد تخلخلك غمزة سميرة توفيق، أو شطحة صباح فخري تماماً كما يستوقفك تمثالاً في ساحة عامة، لوحة في متحف، مبنىً في مدينة او أي مُفردة بصرية مشغولة بعناية للإيقاع بك.
 
لكل مجتمع ثقافة يتفرّد بها ويطل من خلالها على الثقافات الاخرى، وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية أكثر وسائل استعراض الثقافة حالياً، إلا انها ليست الوحيدة ولا الأولى مطلقاً، فقد دأبت الشعوب منذ آلاف السنين على نطق مفاتنها عبر الأدب والشعر، وعرضها فنياً من خلال النحت، والرقص، والمسرح، والغناء، والسينما، والعمارة - فن تصميم وتكوين البيئات الحاضنة للأنشطة البشرية - أحد أعتق وسائل التعبير التي أفصحت البشرية من خلالها عمّا تكتنفه تقنياً وجمالياً وحضارياً، بدءاً بالفراعنة، مروراً بالبابليين والإغريق والرومان حتى العثمانيين وما تلاهم من عمارة إبان النهضة وحتى يومنا هذا، فتطاول البنيان يؤطر هوية نيويورك الحداثوية ودبي الوثابة، فيما تنسج الفراهة والتنوع الهوياتي قماشة فيغاس العمرانية، أما روما، الحبلى بكنائسها التاريخية، وحاضنة البابوية، فهي تحمل، على رغم علمانية نظام الحكم فيها، هوية عمرانية كاثوليكية. لكن ماذا عن محتوى أم الشرائع عمرانياً؟ وما المعلم العمراني الذي يوشمها؟ دبي مزدانة ببرج خليفة، باريس ممهورة بإيفل، أيا صوفيا تتصدر هوية اسطنبول البصرية، ومبنى الأوبرا شامة سيدني؛ ماذا عن شامة بيروت؟
 
قبل الولوج في تحديد معلم بيروت الأبرز لا بد من التوقف عند تواقيع بيروت العمرانية المتمايزة، فلكل منطقة ذائقة معمارية متمردة على جوارها، مما يجعل المدينة أشبه بموزاييك يشي بجمال يتطلع الى الكمال من دون أن يدركه. يظهر اللا-تجانس المعماري جلياً في "منطقة بيروت الرقمية – بي دي دي" في الباشورة، الصرح الحاضن للابتكار وريادة الأعمال في لبنان، والذي يتأنق بزي معماري هجين ورائد - قرميد وزجاج، حديد وحجر- يحاكي طابع المدينة المتعدد الطبائع، فتقف العمارة الذكية وجهاً لوجه مع الموروثة؛ القناطر وانعكاساتها في مرايا "سما بيروت".
 
من الفينيقية مروراً بالبيزنطية، فالعثمانية ومن ثم الفرنسية، هجانة المشهد في بيروت وليدة هذا التناوب الحضاري على المدينة من جهة، وغياب التخطيط العمراني عن ذهنية القيمين عليها بشكل عام من جهة اخرى، ومن اجل استنباط المعلم الأشهر الذي تنفرد به بيروت قمنا بآستصراح أربعة وعشرين مقيماً في العاصمة ينتمون الى خلفيات ثقافية ومهنية مختلفة، فتمخضت عن اجابات مناقضة للمكرس والسائد الناتج من التأطير الاعلامي لصورة هذه المدينة وحصر رموزها بصخرة الروشة ومسجد الأمين تحديداً، فلم يأت أحد ممن قابلناهم على ذكر صخرة الروشة بتاتاً على رغم غزارة المادة البصرية التي تقدمها محطاتنا ومطبوعاتنا وبوسترات وزارة السياحة والتي تبرز الصخرة كتوقيع حضري بيروتي، وفي هذا الصدد، تخبرنا فاطمة دياب، المعمارية المحاضرة في كلية الفنون الجميلة والعمارة في بيروت، أن "صخرة الروشة ليست معلماً معمارياً، بل طبيعياً، وتأطيرها كمعلم رئيسي لبيروت لا يعدو كونه هروباً من حقيقة أن لا قطعة معمارية راسخة كمعلم حضري في بيروت".
 
مسجد محمد الأمين في وسط بيروت يلي صخرة الروشة من ناحية طغيانه على صورة بيروت في الاعلام، إلا أن أحداً من عيناتنا الأربعة وعشرين لم يسمّه كمعلم رمز لبيروت. و "سما بيروت"، البرج الزجاجي الأقرب للسماء هنا، فقد اتى على ذكره أحدهم كمعلم رأسمالي يعلو بيروت دلّال على السلطة العليا الحقيقية في هذه المدينة: الأوليغارشيا القادرة على خرق الطابع المعماري المشرقي وتكرار القرميد في احياء بيروت كأوراد صوفية، وتدنيس البيئة والحيز العام وكل ما يعيق تمدد مصالحها التجارية والمالية.


بعد تفجير المرفأ، قد يكون مارد الأمونيوم الأحمر رمز بيروت الأشهر الجدير بالتأمل قبل العودة الى حيث بدأنا: ما مادة تكوين هوية بيروت؟ "دعكم من هذا الهوس الهوياتي" تجيب بيروت. بيروت، حمامة حطت على نافذتك في المنفى ثم رحلت، فأحببتها من دون أن تفهمها. بيروت الضحكات الرقيعات المفتوحات على أسنان خربة. هي شعبية نعمة الله زوجة الحاج متولي وخشخشة أساورها وأحمر الشفاه الفاقع، وأرستقراطية نازك السلحدار في ليالي الحلمية في آن واحد. لا معلم يتسع لبيروت، حتى الآن أقلّه. بيروت "الجمال الجرح" ربما، بيروت جمال غير متفّق عليه.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم