الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

وجه أبي

المصدر: "النهار"
وجوه (تعبيرية- TrendGallery).
وجوه (تعبيرية- TrendGallery).
A+ A-
حسين كامل
 
هبّت الريح على غير عادتها، انتشرت في كل الاتجاهات. وهناك، من جهة الريف، نسيم منفرد داعب رغيف خبز حتى فاحت رائحته فوق بيوت القرية مع برودة الطقس. كانت الشمس وراء الأفق، تشعّ بنكهة صباحية، وذات لون يلامس وجه منحدرات صغيرة شقّها المطر، وعليها آثار قطيع أغنام. بيديها المتعبتين الخشنتين حملت نحو باحة البيت، صحن قيمر، (قوري) الشاي، ورغيف الخبز:
- سلمان سلمان، القيمر في انتظارك. نادت أمه ببحّة عريضة.
دلّك عينيه، بلّل وجهه، وجلس أمامها.
- من يذهب للرعي اليوم؟ قالت له بقلب مكسور.

كان يسرح بالأغنام سابقاً، يخرج عند تمام الساعة التي تسكن فيها آلام المرضى، ريثما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويعود لمّا يذوب النهار على كتفيه. هكذا كان أبوه قبل أن يموت في شجار قبَلي، حين اكتشف أنّ رجال قريته يختبرون بالمال والنساء... هي تحسّ بمشاعره والألم الخفيّ الذي جعل سلمان ينطوي على ذاته، مذ سافر أبوه إلى عالم لا أحد يعرف مكنونه. تسلّم مهامّ الرعي وحده، سوف يخرج بالقطيع بعيداً عن القرية، عند نهاية تلّ من تراب في بساتين يرأسها النخيل، فوق الأرض المملوءة بالعشب والتبغ.

أكملا فطورهما، ذهب يمشي ببطء مغموراً بسرور غريب اجتاحه توّاً. في يسار البيت، وسط الباحة، باب حديدي قصير رُبط بزاوية إلى حائط طين بارتفاع قامته. نظر من ورائه، انحنت الشاة على وليدها، تذكّر أباه، تعلّق الموقف بذهنه. دفع الباب، تعالى صوت احتكاكه بالأرض. قابلته رائحة القطيع، ملأت أنفه، لم يشمئز فهو متكيف مع هذه الروائح، أخذ يعدّ وهو يشير لرؤوس الحيوانات.
- القطيع جاهز يا أمي.
- احترس، حالما تعود لا تنسَ الذهاب إلى خالتك.

حين خرج عن الحظيرة، جذبته زقزقة الطيور. دخل قفصها الخشبي الذي ربط بابه بقطعة قماش ثم فكّها؛ صفّقت الأجنحة أمام وجهه، أحاطت به، لوّح بيده، نزع نعله البلاستيكي الممسوح. تسلّل ببطء على أصابع قدميه، أعاد زوجين من الطيور حتى يكملا تزاوجهما داخل علبة مستطيلة. طارت البقية على شكل دائرة فوق البيت، حلّقت عالياً، شكّلت حلقة واحدة؛ طارت لعدة مرات، رجعت لزاوية الشرفة الشاخصة فوق الباحة، ثم دخلت القفص الذي تقابله سيارة حمل متروكة... من الجانب الآخر، حائط مُنحنٍ على بستان صنع بابه من شدات جريد نخل يابس، إلى يمينه كومة حطب وتنور طين. عبَر نحو البستان راكضاً، النخيل شامخ يفترش زرقة السماء، توسّدت التمور التربة... بقية سعف تحاكي سعفاً آخر تدلّى من أعلى كلّ نخلة.

تذكّر أرجوحته الواقعة في نهاية البستان، كان الطريق نحوها أربعين نخلة. رفع يديه، مدّهما أفقياً، استدار في الهواء الطلق، استحال حلمه أن يشبّ مع أبيه كبقايا جريد النخل المتدلّي الذي ينتظر السقوط ويتيبس لما تضع الشمس خيوطها عليه. تناول تمرة واحدة، كانت حلاوتها أقلّ من حلاوة روحه. هزّ الأرجوحة بكلّ قوّته، ركب مقعدها، لامسه حبل عالق قد شدّت في نهايته عقدة دائرية... رماه للخلف غير مبال، تأرجح ضاحكاً، رجع الحبل فوق شعره، انزلق على رأسه فعنقه. انفتل عليه، ضحك بكركرات قوية، وتأرجح مسروراً. اختنق، لا يعرف أمن شدّة الضحك أم من نقص الهواء. نادى وجه أبيه الشاخص أمامه، تبادلت العيون الضحكة ذاتها، غاب الوجه شيئاً فشيئاً، حتى تباطأت الأرجوحة وحبس الحبل أنفاسه.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم