الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عن هوامات سيلفيا بلاث التي أتقنت الموت بشكلٍ استثنائيّ

المصدر: "النهار"
سيلفيا بلاث.
سيلفيا بلاث.
A+ A-
 
رنيم ضاهر

تملك سيلفيا بلاث (27 تشرين الاول 1932 – 11 شباط 1963)، المرأة الشاعرة، العابثة بالنار، ما تملك من فلسفة الحياة. فوبيا سحيقة قد تبرر توقها للموت. الموت كسؤال وحلّ، وإنهاء لمونولوغها الداخلي. شخصيتها تتداخل بنصوصها، ففي أحد المشاهد تتوق لطعن أمها الضعيفة في مواجهة الذكور، لكن طاقة الحب والشفافية لديها، تثبت عدم قدرتها على إيذاء الآخرين، فتصبّ الزيت على النار في النص، موجِّهةً طاقة العنف إلى أعماق نفسها، في محاولات انتحار متكررة ومتنوعة الطرق.
 
وسائل الدفاع التي استعملتها لتسترد نفسها من قبضة الفراغ، كالكتابة والأطفال، لم تبعد أفكارها القاتلة، ذلك أن "أي طقوس من الكلمات/ يمكن أن تُرمم الخراب؟". وهي لطالما غطت وسائدها باللطف والدفء، ولطالما بقيت خارج النص روحاً هشة، مبعثرة، تبحث عن قطارات ستصل دائما كالكلمات بعد فوات الأوان.
 
سيلفيا بلاث العاشقة والشاعرة حيث لرومانسية الأولى أن تقبل بنعيق الغربان في قصائد الثانية، كاشفة عن حب مرضي لشاعر استثنائي، بحسب اعترافاتها في مذكراتها الصادرة بالعربية لدى "دار المدى" وهي تصف حبيبها الشاعر البريطاني تيد هيوز: "رفقة ساحرة ومتواصلة لزوج رائع جدا، طيب الرائحة، كبير، مُبدع بطريقة استثنائية، إلى حد يجعلني أتصور أنه من بنات خيالي".
 
معادلات غير رياضية بين بلاث وحياتها وقصتها مع الزواج والشعر وشياطينه. وبحث مرير عن شفاء ما في حياة ثانية بصحبة كلمات قد تشق طريقها أحيانا من نافذة مطبخها آسرة بجناحيها العالم: "هناك على الغصن اليابس العالي/ يجثم محدودبا غراب أسود/ يرتب ويعيد ترتيب ريشه في المطر/ لا أتوقع معجزة أو حادثة/ تشعل المشهد في عيني/ ولا أطلب في الطقس الطائش/ أكثر من هذا المشهد،/ لكن أدع الأوراق المنقطة تسقط كما هي/ بغير دهشة أو حفاوة" (من مختارات صادرة لدى "دار الجمل"، ترجمة سامر أبو هواش).
 
عن سيلفيا الريفية، الحافية، القادمة من مزرعة والديها، التي يتجمع سواد الأفق في عينيها الصغيرتين، وجيناتها القاتمة، كان الحب ذريعتها للموت، إذ أن زواجها بهيوز زاد هذيانها ولم تمنحها الأمومةُ الطمأنينة، هي الخائفة من الحمل والانجاب والعقم. وفي ظل التشظي النفسي الهائل بين ما هو حقيقي ومُخيّب للأمل، وبين ما هو أبدي وقابل للعيش، كتبت بانسيابية ولطف قل نظيرهما رغم أنه لا يظهر ضوء كآخر النفق في قصائدها، التي بذخت عليها الكثير من المعاناة والخيبة، خاصة أنها فقدت الأب في طفولتها وربما قضت باقي حياتها القصيرة تبحث عنه، أحيانا في معطف الرجل وأحيانا في أروقة المصحات الباردة.
 
"الموت فن ككل شيء آخر/ وأنا أتقنته بشكل استثنائي". هذا ما يزخر به نصها الشعري والنثري من مفردات هدامة، على الرغم من عنوان الحب العريض وفتنتها به، تبدو الخيانة جزءا من ضعفها النفسي وتركيبتها الهشة في عالم مسموم .
تستوقف أيضا في حقلها المعجمي، كثرة الغربان والقبور والسواد المرتبطة بخريف الطبيعة والأغصان المهتزة التي ربما تعبر عن انا مهزوزة ومتعبة .هنا يطرأ أيضا، هاجس الخوف من البشر، ومن نفسها اكثر، وهذا يبدو جليا في أكثر أعمالها. في قصيدة لها عن الغابة تقول :"هذه الغابة بخور أسود/ يتقطر الطحلب الشاحب/ في المناديل/ وتنتقل الطيور من العظام القديمة/ إلى الشجرة الهائلة".
 
يبدو أنها تخلط أنفاسها بتغريد الطيور، وتوازي بين تصلب أعضائها أثر النوبات العصبية وتقوقع الصخور. أما الماء فيترقرق عذبا في قصيدتها الغنائية إلى حد كبير، حيث تدق الشاعرة على آلتها الكاتبة أثر الطبيعة في نفسها، وأثر اكتئابها على الطبيعة، وهنا تقترن كائناتها الضعيفة بمشاعرها الخائبة. تبدو أحيانا زهرة في مهب الريح، أو كعيني غراب ضائعتين في الفراغ، أو سحابة فقيرة، هي التي تعرف جيدا كيف تفوح رائحة التراب بعد أول شتاء من قصيدة، وكيف ينبت العشب حرا طليقا هناك، قاطعا المسافة بين قلبها وعقلها بجمل ليست كالحياة.
تفضح بلاث ضعفها وقوتها في آن واحد، متخذةً من الشعر ملاذا للثأر من ذكورية تيد وهوسه بعشيقته، وهنا تظهر مزاجية شاعرين تحت سقف واحد لن تتسع هواماتهما لجدران اربعة او لحقل من الأطفال.
 
ربما تتشابه الشاعرات من حيث رهافة الحس، بما ينعكس حزنا حقيقيا في النصوص، شفافا، يخلط ما هنّ عليه في المرايا. فبلاث الطفلة الشقية والبريئة، كما تصف نفسها في مذكراتها، تبدو متمردة وحزينة في المراهقة التي لم تهدأ تأثيراتها إلا في مصح خرجت منه شاعرة وكاتبة تنشر لها الصحف وتمنحها جوائز كرست موهبتها باكراً. زواجها من تيد هيوز أعادها من جديد الى هلوسات تجلى بعضها بالشعر الذي لم يكن في النهاية غير تخدير موضعي لمعاناتها. هكذا قررت في النهاية أن تضع رأسها في فرن المطبخ كي تتخلص من تشابك أفكارها الى الأبد، تاركةً بانتحارها تساؤلات وضجة لم تستطع فك الغازها صحافة العالم أو سردية الأفلام. فهي نفسها لم تعرف نفسها جيدا ليعرفها الآخرون، وهذا ما عبرت عنه حين قالت في قصيدة "ثلاث نساء": "إني متوحدة كالعشب. ما هذا الذي أفتقده / هل أعثر عليه يوما أيّا يكن؟".
 
ربما تكون قد عثرت الآن على جواب عن سؤالها، الذي يرن في قلوبنا كطريقة موتها الغريبة في بيتها الذي أعطاها الشعر وسلب منها الحياة، بعد أن قررت مسبقا في لاوعيها أن هناك "أكثر من طريقة لائقة للغرق".


 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم