الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

في زنزانة الأمم المتّحدة

عقل العويط
عقل العويط
لوحة لمنصور الهبر.
لوحة لمنصور الهبر.
A+ A-
 
 
طالبةٌ جامعيّةٌ تدرس الأدب العربيّ الحديث وتتخصّص فيه، طرحت عليَّ السؤال الآتي: أنتَ شاعرٌ وكاتبٌ وصحافيٌّ وأستاذ أدبٍ ونقد، لماذا تضيّع وقتكَ في الكتابة "السياسيّة"؟ الطالبة ألحّت أنْ أضع كلمة "السياسيّة" في سؤالها بين مزدوجين، لمعرفتها الدقيقة أنّي لستُ كاتبًا سياسيًّا.
أجبتُها بالآتي، وبعفويّةٍ على شيءٍ من الاستعراضيّة المبالَغ فيها: لأنّي لا أريد أنْ أُصاب بالجنون أو بالإحباط أو باليأس. ولأنّي لا أريد أنْ أهشل، ولا أنْ أنتحر، ولا أيضًا... أنْ أرتكب جريمةً "سياسيّة".
قالت: وكيف يكون لكَ ذلك؟
قلتُ: لا أملك حلولًا "سياسيّةً" قابلةً للتنفيذ في الوقت الراهن، لكنّي أعرف أنّ الحلّ "السياسيّ" الوحيد الذي ينقذ اللبنانيّات واللبنانيّين، ويمنع لبنان من الزوال، هو الحلّ العلمانيّ المدنيّ الديموقراطيّ الذي يفصل بين الدين والدولة، ويضع حدًّا نهائيًّا لا رجوع عنه لسيطرة هذه الطبقة السياسيّة – الطائفيّة – المذهبيّة – الماليّة – المافيويّة – الميليشيويّة - الأمنيّة، على السلطة والمصير والوجود. أنا أكتب في هذا المجال "السياسيّ" ومتفرّعاته فحسب، لأنّه يمنحني العزاء، ويمنح فئةً من مواطِناتي ومواطنيَّ العزاء نفسه، الذي يمنعني من الجنون والإحباط واليأس والانتحار، أو من ارتكاب جريمة "سياسيّة".
قالت: سمعتُ أحدًا يردّد أنّ التوصّل إلى مثل هذا الحلّ، الذي قد يكون بعيد المنال – وربّما مستحيلًا - بسبب رسوخ الطائفيّة والمذهبيّة والفساد السياسيّ – الماليّ الذي يوحّد أهل الطوائف والمذاهب، هو بإعلان لبنان دولةً فاشلة، وبوضع اليد الدوليّة عليه، وفرض الحلّ الدستوريّ العلمانيّ المدنيّ، من خلال "تلاقي" المصالح الدوليّة المتنافرة، وخصوصًا "توافق" الدول الدائمة العضويّة في مجلس الأمن...
قلتُ: من المؤلم بل من المعيب والمشين والمُذِلّ والمهين ومن غير المشرِّف للبنانيّات واللبنانيّين أنْ – ربّما – لا يكون ثمّة حلٌّ إلّا هذا الحلّ الذي يُفرَض فرضًا. علمًا أنّ أقصى الحلم هو أنْ يتحقّق الحلم: إطاحة هذه الطبقة السياسيّة – الطائفيّة – المذهبيّة – الماليّة – المافيويّة – الميليشيويّة – الأمنيّة على أيدي اللبنانيّات واللبنانيّين أنفسهم.
قالت: عم تحلم. شوف شو عملوا بجبران تويني (12 كانون الأوّل، ذكرى اغتياله الخامسة عشرة)، وبسمير قصير، زميلَيك في "النهار". لم يتركوا صوتًا حرًّا إلًّا اغتالوه. لقد تفكّكت الدولة وذهبت هيبتها، لصالح أسياد الفساد. أمس، قامت القيامة على المحقّق العدليّ في جريمة تفجير المرفأ، لأنّه أدّعى على رئيس حكومة وعلى وزراء. ترى، ألا ينبغي للإدّعاء أن يشمل جميع المعنيّين من رئيس الجمهوريّة إلى رئيس السلاح إلى آخره؟
قلتُ: عبثًا، كلّ حلٍّ ترقيعيّ، وجزئيّ. كلّ التفافٍ على الموضوع، على الحقيقة، على جوهر المشكل اللبنانيّ، سيجعلنا نظلّ ندور في الحلقة المفرغة نفسها. القضاء الذي لا يستطيع إلّا أنْ "يخاف"، أو أنْ "يداري"، أو أنْ "يراعي"، أو أنْ "يتغاضى"، أو أنْ "يجتزئ"، ليس قضاءً. الأمن الذي يكون بالتراضي، ليس أمنًا. السلاح الذي يكون في يد الدولة وفي يد غيرها، آخرتُه وخيمة، مثل حاله أمس واليوم...
قالت: هذا كلّه، وأنتَ لا تزال تمعن في الكتابة "السياسيّة"، علمًا أنّ من الواضح أنّك أكثر من يائس. عجبًا. عجبًا. عجبًا!
قلتُ: سأظلّ أدقّ الماء. لا أريد أنْ أفقد الأمل. يجب. يجب. يجب. يجب ألّا أفقده. هذا واجبي تجاه نفسي أوّلًا وأخيرًا وبين بين...
قالت: الواضح أنّ هذا الكلام ليس "سياسيًّا" على الإطلاق. جان جيونو يقول إنّ الشعراء هم أساتذة الأمل. شكرًا لكَ على هذه المحاورة. شكرًا لك على هذا الأمل. 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم