تتلمذ على نازك الملائكة... الشاعر عبدالله خضيّر: لولا الشعر لمرضتُ من الواقع العربي المهترئ

أنور الموسى

تفرض مفردات الألم العربي، والضوضاء، والفساد، والتمرّد، والرفض، نفسها على التجربة الشعرية العراقية، وهذه المرّة، عند شاعر انتقى عناوين دواوينه بإتقان؛ أعني الشاعر العراقي، ابن البصرة، عبد الله عباس خضيّر الذي أطلق على ديوانه الصادر عن "دار ابن سكيت" العراقية، تسمية "مراثي القبيلة".

فالقبيلة في العرف السائد، متمرّدة، تتمسّك بالقيم والبسالة والعنفوان، أما أن نأتي بكلمة "مراثي" الموجعة والباعثة على الحزن، ونضيفها إلى القبيلة، فهنا مكمن الإشكالية.

فالشاعر خضيّر، أحد تلامذة روّاد الحداثة في العراق؛ تتلمذ على نازك الملائكة والدكتور حسن البياتي، والدكتور محمد سيد طنطاوي، وعبد المنعم الزبيدي، وزاهد العزيّ، ود. خليل العطية. شهدت له الحقول التربوية في العراق والبصرة، ونشرت له الكثير من الأعمال، وتناولته الدراسات، ومن دواوينه: "قراءة في سيرة التتار" (2000)، "وصايا إله الماء" (2009)، "حول الخطّ الأحمر" (2012)، "حاشية الأحلام" (2012)، و"مراثي القبيلة"…

وما يميّز ديوانه الأخير أنه يشي بنضج التجربة الشعرية عند صاحبه، وتناوله قضايا أدبية حساسة، ما جعله شاعراً ملتزماً، يعبّر عن هموم وطنه، والمآزق التي تعتريه.

فحول تجربة الشاعر، وعناصر إبداعه وظروفه وتمرّده وتجديده، وموقفه من تحليل شعره وفاق المنهج النفسي، كانت لـ"النهار" هذه المقابلة معه.

ما أثر الطفولة في تجربتك، ومتى بزغت موهبتك الشعرية؟

طفولتي رومانسية، حالمة، وما أثّر فيّ خلال الطفولة جمال الطبيعة، والاستغراق في التأمل، والاندماج الصوفي في الطبيعة، حيث أنسى نفسي أمام جمالها. بدأت الكتابة العام 1965، وكان لمدرّس اللغة العربية محمد راضي جعفر الأثر الكبير في تشجيعي. قُرئت لي قصيدة في برناج "الحقيبة الأدبية" في إذاعة بغداد 1968، فكانت بمنزلة حافز مهمّ لي، ثم نُشرت لي قصائد في صحف عراقية، كالقادسية والطليعة الأدبية، وفي الصحف العربية.

مَن الشعراء الذين أثّروا فيك؟

شعريّاً، تأثّرت بطرفة بن العبد، والسيّاب، ومحمد راضي جعفر، والجواهري، ونزار، والشيخ جعفر.

تقول إنك تتلمذت على روّاد الحداثة وغيرهم، واستفدت من كبار الأدباء. ماذا زرع فيك هؤلاء؟

من الشعراء الذين أثّروا فيّ السيّاب والشابّي. وفي ديواني الأخير، تأثّرت أيضاً بعلي محمود طه، وبأسلوب نزار السهل الممتنع. وتأثّرت بنازك الملائكة التي هي، من حيث الشكل، كلاسيكية تماماً في اهتماماتها وقراءاتها وشغفها بالتراث. وكان السيّاب أكثر جرأة وتحرراً منها. فالسيّاب علّمني الكثير، في الصورة والرمز والصدق الفني. كنت مغرماً به. كما تأثّرت بالمهندس وناجي وأدونيس والبياتي. ومن الأدباء الذين علّموني مباشرة في المدرسة محمد راضي جعفر وحسن البياتي، ونازك الملائكة التي علّمتني في جامعة البصرة لعامين. نعم، تأثّرت بها، ولا يزال أسلوبها يراودني حتى الآن.

حدّثنا عن علاقاتك العاطفية. وهل أثّرت فيك؟

أنا متزوّج، ولديّ تجارب حبّ قبل الزواج، ولم تتح لي الظروف استكمال العلاقات.

وهناك تداخل بين الأمّ والحبيبة والمرأة، حتى القدس والوطن العربي، وهو أمر معهود عند السيّاب ودرويش.

هل عكست طفولتك حرماناً أو عذاباً؟

لم أعش طفولة حرمان أو عذاب. طبعاً عشت مرتاحاً تماماً، حتى ماديّاً، وسط أسرة محافظة. ولعل أبرز ما أثّر فيّ خلال الطفولة المجتمع الريفي، حيث العزل بين الجنسين، ليس مكانيّاً بالضرورة، لكن حواجز الدين والتقاليد والعرف كانت مستبطنة داخلياً.

ما موقفكم من التحليل النفسي لأعمالكم بعدما دُرست بعض أعمالكم استناداً إلى المنهج التحليلي النفسي؟

موضوع التحليل النفسي للشعر شائق وصعب، وهو تخصّص نادر وثمين. فالتحليل النفسي للأدب ينبغي أن لا يطغى على المضمون الأدبي، وإلا تصبح الدراسة علم نفس. المهم أن يضيء علم النفس على البعد النفسي للتجربة الأدبية. وأنت تذكر دراسات عزّ الدين اسماعيل والعقّاد، حيث الرؤية المسبقة التي يبحث لها الدارس عن مصاديق، وأحياناً نترك التحليل العلمي يقودنا.

لمَ تُكثر الثنائيات لا سيما التمرّد والانهزام في شعر المراثي؟

سبب ذلك أنني لا أثق بأن السلطة في العراق ستقدّم شيئاً لنصرة القضايا المصيريّة، وهذا مدعاة إحباط. وهي أيضاً لا تقدّم شيئاً للعرب. أنا كونيُّ الرؤية، أعيش الهمّ العربي بهوس. من هنا التمزّق بين ما تربّيت عليه من مبادئ ـ تُعدّ قضية العرب قضيتي ـ وبين سلطة تحتقر من يقول إنه عربي.

لماذا تحلم بالقدس في ديوان "مراثي القبيلة" وغيره؟

هذه مبادئ لن أحيد عنها. وأنا متفائل بتحرير القدس وكل فلسطين، فنحن لا نيأس. وليبق الأمل.

بعد تكريمك وإغداق الجوائز والدراسات عليك، أتعدّ نفسك نرجسيّاً، لا سيما في ديوان "المراثي"؟

نعم، بالتأكيد، أنا نرجسيّ.. نرجسيّ بمعنى مثالية الصورة عن الذات، والعصامية والتفوق. فأنا لا أقبل القبيح، لي أو للآخرين.

بِمَ تشعر حين تنهي قصيدتك، وما وظيفة الشعر في العلاج؟

أشعر بالراحة حين أنتهي من نظم قصيدتي. فالقصيدة هي تصريف لمكبوتات سياسية واجتماعية وعاطفية وجنسية. وبالمناسبة، أكاد أكون متخصّصاً بفرويد والماركسية والفرويدية، ورايش وماركيوز وإسبورن وفروم وآنّا فرويد.

فأنا لا أعاني اضطرابات نفسية؛ فلولا الأدب والشعر لحصلت اضطرابات ومرضتُ بسبب الواقع بيبوسته. فوظيفة الفنّ بالتأكيد امتصاص المكبوتات؛ لذا، الأدباء لا يمرضون نفسياً.

أتشعر بقيمة العذاب في شعرك؟

نعم، العذاب ملازم للعراقيين نظراً الى الظروف القاهرة. ولربّ ضارّة نافعة. لكن في الوقت نفسه، لا أقصد التلذّذ بتعذيب الذات (المازوشية). صحيح أنني رومنسي؛ لكن لديّ تضخيم للذات لا تعذيبها. فالرومنسيون طغى عليهم افتعال الحزن.

لوحظت في شعرك رموز تراثية بشكل لافت، ما بواعث اتكائك على التراث؟

شعري في كل دواويني متكئ على التراث، حتى في ديواني "مراثي القبيلة". وقصدت من ذلك إرسال رسالة واضحة مباشرة للإنسان العراقي والعربي. لم أوغل في الترميز، لأنّا نحن أمام تحريض لا يتناسب مع الغموض الرمزي.

يرى رايش أنّ الكبت الجنسي أساس القمع والتخلّف السياسي والاجتماعي، فما رأيك؟

هذا أقدّره تماماً. فمجتمعاتنا مكبوتة بدرجات، وأنا أقرأ حتى ماركيوز في الحب والحرية، وفروم في الخوف من الحرية وثورة الأمل، وغارودي في نحو التحرر والبديل.

أتخشى على صراحتك من السلطة؟

لقد بلغ السيل الزبى. فنحن في خطر مصيري، لا مجال للخوف بعد. قد أصاب بمكروه، لكني لست مرتعباً. فالعراق بطاقاته يمكن أن يقود العرب نحو مستقبل مشرق، فأين طاقاته؟ لعلك سمعت بمهزلة سرقاتهم الفلكية؛ 1000 مليار دولار تسرق والشباب عاطل والخريجون يتسكّعون…!

لمَ تستخدم في المراثي السهل الممتنع؟ ولمَ الصور الواضحة؟ ولِمَ القصائد القصار؟

هي قصائد تحريضية، بمنزلة منشورات، لا تصلح معها الرمزية للبسطاء، لذا، تميّز أسلوبي بالسهل الممتنع، وكثرة الصور الواضحة، مع العناية بتنوع الإيقاعات الوظيفية، أي الهادفة.

ما وصيتك إن أصبت بمكروه؟

أنا الآن لا أرجوهم لشيء، ولا أخافهم على شيء، وماذا أفعل؟ كفانا خنوع، فمستقبل العراق والعرب يسرق، فإن غدروني سأقول لهم كما قال نزار (بتصرف): لا تقرأوا أفكارنا، فنحن جيل القيء والزهري والسعال، ونحن جيل الخوف والإسفاف والرقص على الحبال.

ما عناصر التجديد في المراثي؟

مع أنها حركية، إلا أني لم أفرّط بالجماليّ لمصلحة السياسيّ، بل فيها توازن بين جمالية الصورة والمضمون الإنساني والوطني. ولم أشأ الإيغال في الرمزية، وابتعدت من الإسفاف في اللغة والصورة والموسيقى، كما يفعل غالبية شعراء اليوم.

ما رأيك في ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي من شعر وأدب؟ وهل يخدم هدفكم؟

أرى أن ما تنشره بعض مواقع التواصل الاجتماعي من منشورات، مشرّف، ومحفّز للنوم والغافلين الذين كثروا في هذه الأيام، علماً أن لي موقفاً سلبياً من آلية النقد عبر بعض المواقع، وكثافة الأخطاء الإملائية المخجلة.

لمَ التنوّع في الأوزان في شعرك؟

في شعري هناك توازن كبير بين العمود والتفعيلة. الموسيقى عندي عنصر أصيل في الشعر، وليست عنصراً شكليّاً. القصيدة، في نظري، تولد لابسة شكلها الموسيقيّ المناسب، ولا أفرض عليها شكلاً مسبقاً؛ لذلك قد تجيء عموديّة أو شعر تفعيلة.

وبالتّأكيد، قصيدة النّثر ضحّت بعنصر الموسيقى العروضيّة لصالح الموسيقى الداخليّة التي يعتقد أصحابها أنّها تنبع من بنية النّص العميقة وجدل العلاقة بين عناصره.

ماذا يضيف إليكم التكريم والجوائز؟

بالحقيقة، التكريم صار هذه الأيام تقليداً مستهلكاً، ولم أكن أسعى إليه في يوم من الايام. هناك أوسمة وشهادات تقديرية وصلتني، هي أحياناً تكبّل أكثر من أنّها تضيف جديداً للمبدع. والمؤسف أنّ هناك أشخاصاً يهرولون إليها. 

اقرأ للكاتب أيضاً: "شعراء جبل عامل المعاصرون": موسوعة "الوحدة الوطنية" الأدبية وكتّاب الهمّ الإنساني

وأيضاً: الشاعر محمد توفيق أبو علي لـ"النهار": لا أفهم شاعراً أو أديباً لا يلتزم الهمّ الإنساني

أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية