السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

قراءة في "مقامات نون النسوة": معوّقات وصول المرأة إلى موقع المساواة مع الرجل

المصدر: "النهار"
الشيخ عبد الحسين صادق
قراءة في "مقامات نون النسوة": معوّقات وصول المرأة إلى موقع المساواة مع الرجل
قراءة في "مقامات نون النسوة": معوّقات وصول المرأة إلى موقع المساواة مع الرجل
A+ A-

أبدأ بعنوانه الرمزي المرهف، "مقامات نون النسوة" ولون الورق المريح، غير المتداول، والحجم الكبير لكل من الجزءين الواعد بمادة غنية، وبمقدّمة رسمت خريطة واضحة لبحوث الكتاب ومضامينه، وغنى الهوامش، حتى لا تكاد تمرّ صفحة واحدة منه إلا وقد ذُيّلت بمصدر أو أكثر، أو بتوضيح أو تعليق يُدخل في النفس الثقة بكون الكتاب الذي بين يدي القارئ دراسة موسّعة وموثّقة عن المرأة. ثم إفراد الجزء الثاني نموذجاً للمرأة تحت عنوان "مريم وفاطمة (ع) لؤلؤتا الإنسانية"، بعد الكلام عنها بتوسّع في الجزء الأول من السلسلة الموسوم بعنوان فرعي "بحث في عالم المرأة العربية"، والصادر عن دار الفارابي. 

يبدأ الكتاب ضمن تسلسل مريح في تتابع الفصول والفقرات بعرض واضحٍ عاجل لوضع المرأة منذ فجر التا ريخ، حيث كانت_ وهي مفارقة مقرونة بتحليل اجتماعي نبيه_ صاحبة المكانة الأهم في حقبته الأولى، مروراً بسائر الحضارات المتعاقبة، تضيء بكلمات ، لكن وافية وضعها المأسوي خلال هذه المراحل، وصولاً إلى الصفحة التي طوى الإسلام بشريعته السمحة عهود الكبت والإجحاف التي عاشتها المرأة، لتثير التساؤل عن الأسباب التي دفعت الرأي العام العربي والإسلامي إلى اعتبار المرأة أقل شأناً من الرجل، موردة في الإجابة على التساؤل ثلاثة عشر سبباً بينها "القوامة" ووصم المرأة عموماً بالضعف في بنيتها الجسمية والذهنية قياسا على الرجل، وجهل المرأة نفسها بحقوقها، وهو بنظرها الطامة الكبرى، محاورة بلباقة جميع الأسباب الثلاثة عشر، تفنّد بعضها بحجج متينة، لا ضير أن تُشرِك كاتباً وإن بالقسط الأكبر من الجواب، كالدكتور محمد شحرور ونظيره إبرهيم شوقار، أو تدع كاتباً آخر يتولى رداً استحسنته كما في مفهوم "القوامة" الذي يتخذه البعض شاهدا قرآنياً على تفوّق الرجل بطبعه على المرأة، حيث توّجت جوابها برأيين: أحدهما لاشعراوي، منطقي جميل، همّها في الردّ خدمة الفكرة وإقناع القارئ.


وقبل خوضها في وضع المرأة العربية_ موضوع الكتاب_ تطلُّ المؤلفة لطيفة الحاج قديح بالقارئ بادئاً على كفاءة المرأة وقدراتها ومواهبها عبر التاريخ مُورِدة أسماء لامعة للنساء في ميادين العلم والأدب والشعر والنضال الإنساني على اختلاف وجوهه، لافتة النظر بعدها إلى حركات تحرّر المرأة ، في طليعتها الأوروبية والأميركية، وما حوته كلاهما من نزعة عالمية، شقّت لها في عالمنا العربي والإسلامي طريقاً، أكثر ما اتضح في تركيا وتونس، ثم في مصر بقلم قاسم أمين ودعوته المجاهرة الى تحرير المرأة، ساندة في بعضها كحقها في التعلّم الشيخ رشيد رضا، واكبتها مواقف جريئة اتخذتها نساء مصريات كصفية زغلول التي قادت تظاهرة ضد الانكليز عام 1919 م، وهدى شعراوي مؤسسة جمعية الاتحاد النسائي، 1923 م ، ودرية شفيق التي أنهت نضالها الغاضب في مناصرة المرأة بالانتحار عام 1975م. 


لتخوض عندها المؤلّفة في مسألة الحجاب الحسّاسة بتوسّع، أنهتها بعد عرض مسهب لأوجه الاختلاف فيه، شبه محايد، بإدانة ساخنة لموقف الرئيس الفرنسي ساركوزي لتعدّيه السافر على حرية الرأي والمعتقد في البلد الذي يفاخر برفع شعار الحرية. 

لتدخل بعد الحجاب إلى محور الكتاب _ وضع المرأة العربية المسلمة_ تستهلّه بإشهار النص الإسلامي السمح (القرآن والحديث) كقول الرسول "النساء شقائق الرجال" أضيف إليه حديث شريف آخر: "...رفقاً بالقوارير"، تستهلّه في وجه التقاليد البالية ورجعية بعض رجال الدين_ حسب تعبير الكاتبة_ وقراءة النص الشرعي بشكل مغلوط أو تعسّفي يناسب الرجل. وحبس النساء داخل الجدران، يُغيّب عنهنّ نور العلم ..موصولاً كلامها بحملة ضارية موفّقة، مدعومة بكلام لرجال دين وكتاب مستنيرين، ضد فظائع الفكر الوهّابي، كفتاوي الجهاد المخزية ..لتحيّي بعدها المرأة العربية النموذج ونضالها الرائع المشرّف إلى جانب الرجل في طليعتها المرأة الفلسطينية: المقاوِمة والشهيدة والجريحة، والصابرة على الحصار، فالمرأة اليمنية في حراكها الشعبي الثوري، وساحات الاعتصام ومسيرات النضال السلميّة، قطعت في إحداها سيراً على الأقدام من تعز إلى صنعاء ثلاثة آلاف كلم، فالمرأة اللبنانية التي سبقت شقيقاتها العربيات في خوض ميدان الصحافة (هند نوفل) والحصول على حقّ الترشّح والتصويت ( 1953 م) والوصول الى البرلمان ( ميرنا البستاني 1963 م) وحتى السعودية المسلوبًة أدنى حقوقها، فالجزائرية ممثلة بالبطلة ( جميلة بوحيرد) والأديبة المكافحة (زهور الونيسي)، واستطراداً المرأة الإيرانية التي"تشهد حركة نسائية إسلامية ناشطة".

وبعد إلقائها النظر إلى النموذج المشرّف للمرأة في المجتمعات العربية، وبيان قدراتها العالية، تحاول مؤلفة "مقامات نون النسوة" وهي الناشطة الاجتماعية المجدّة، أن تعرّف القارئ على السبب وراء تأخر المرأة ومعوّقات وصولها إلى موقع المساواة مع الرجل، ولا سيما مواقع القيادة، وأخذ القرار... تاركة الكلام للكاتب محمد شحرور ونظيره  ابراهيم شوقار ليعيدا السّبب في العموم إلى فشل المجتمعات العربية في التوفيق بين الثابت (النص) والمتغيّر (ظروف الحياة المتجدّدة عبر الزمن) حيث جَمُدَ المسلمون في نظرتهم إلى المرأة على ما فهموه من الإسلام في العصور الأولى، ولا سيما العباسي والعثماني. وما قدّمه عصر النهضة إلى الآن، لا يزال قاصراً عن إيصال المرأة إلى حقوقها، طارحة_ ربما_ مسألة الزواج، وهي الركن الأساس في العلاقة الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وبتوسّع في إحدى أبرز تفريعاتها (تعدّد الزوجات) كمثل واضح على واقعية ومرونة وعمق التشريع الإسلامي، وقدرته على إيجاد الحلول الاجتماعية لكل عصر. مستشهدة بكلام لباحثين أجانب مثل الفرنسي هنري دو كاستري والأميركي الشهير وول ديورانت الذي رأى أن "حدود الزواج في الإسلام أوسع منه في كثير من الأديان..." وغيرها.

وبعد استنطاق النصّ القرآني علّه يحمل بصيص ضوء في جواز استخلافها وولايتها، كما الرجل، وبيان الكاتبة أنها غير محسومة عند الفقهاء والمفسرين، ما دفعها للكلام عن الاتفاقيات الدولية كاتفاقية سيداو الموقعة عام ( 1981 م) من قبل ( خمسين دولة) بينها عددٌ من الدول العربية منها مصر، لترى مدى انسجام هذه الاتفاقية مع تطلّعات المرأة العربية فتنتهي إلى التحفّظ عليها لمعارضتها الإسلام صريحاً في ستّة من نصوصها التسعة، تقف لطيفة الحاج عندئذ، ومعها دراسة ملمّة عن وضع المرأة في ظلّ الحضارات والشرائع السابقة عبر مسار التاريخ إلى اليوم، وإلمامٌ كاف بنصوص شريعتها الإسلامية وما منحته هذه النصوص للمرأة من حقوق وحرية رزينة في شتى المجالات كمجال التعليم ،والعمل، والاكتساب، واختيار الشريك، والنشاط الاجتماعي الهادف على اختلافه بما فيه السياسي، تقف متألمة بعمق، ومعها هذه الحصيلة الغنية، لتلاحق الأسباب والمعوقات الاجتماعية الظالمة التي تحول دون وصول المرأة إلى موقع المساواة مع أخيها الرجل في مجتمعاتها العربية، لا تعفي المرأة نفسها بين ما ذكرت من أسباب ومعوّقات، كـ "ضآلة دور المثقفين والمستنيرين من الجنسين في النهوض بالمرأة لأداء دورها الحضاري، وهيمنة الرجل كحق طبيعي له على المرأة حسب الموروث التقليدي، وسواها من الأسباب، لا تعفي المرأة نفسها من ضلوعها في أكثر من ناحية بالتسبّب بهذا الوضع الدوني الذي تعيشه وتشكو منه، متسائلة في خاتمة الكتاب عن "الحلول المطروحة لخروج المرأة من القمقم الذي حبست فيه"، حسب تعبيرها، موردة بعد التساؤل العديد من هذه الحلول أبرزها: "التمسّك بالفريضة التي فرضها الإسلام على المسلمين ألا وهي فريضة العلم وأن يكون تعليمها متواصلا لا يقطعه الزواج أو تربية الأولاد أو أي سبب آخر، ومع العلم والعمل وتراكم التجارب تستطيع المرأة اكتساب القدرة والكفاءة للتمييز بين الصح والخطأ، وإيجاد الطريق للخروج من المأزق الذي وقعت فيه، والتحرّر من المفاهيم الخاطئة والعادات البالية العقيمة التي انتجتها عصور التخلّف". لافتة أن الضغط على الكتل النيابية المختلفة، ورؤساء الأحزاب قد يمكّنها من نيل حقوقها السياسية، مؤكّدة أن نمط الحياة الغربية الذي يستهوي بعضهنّ والاتفاقات الدولية كاتفاقية "سيداو" لن يخرجها من العبودية إلى التحرّر، ولا يحقّق لها السعادة والطمأنينة، "وأن الحلّ الأمثل لمعضلتها يكمن في الشريعة الإسلامية بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وتصدّي المهرة من الأطباء المسلمين، تعني الفقهاء المستنيرين، لتشخيص كلّ داء جديد، قبل المعالجة... ووصف الدواء من صيدلية الإسلام نفسه، لا بالتسوّل من الغرب والشرق"، حسب تعبير المؤلفة، داعية المرأة العربية المعاصرة إلى تجسيد النموذج المتوازن للمرأة الأم وربة البيت التي توفّق بحبّ وتفان، بين واجبات الأسرة ودورها في العمل المجتمعي.

كانت دعوتها المخلصة هذه، هي_ ربما _ وراء وضع الجزء الثاني من كتابها "مقامات نون النسوة" الموسوم بعنوان ( مريم وفاطمة لؤلؤتا الإنسانية) تضيء في قسميه للمرأة وللقارىء عموماً كيف وازنت هاتان القديستان _ وهما في النهاية بشرٌ من لحمِ ودمِ _ بين دوريهما الخطيرين داخل الأسرة، وفي رحاب المجتمع الكبير، تغمرهما السعادة المطلقة، رغم كلّ ما ذرفتا من دموع، واجتاحت حياتهما من تحديات ومحن وأهوال.

والجزء الثاني من " مقامات نون النسوة" عنيت "مريم وفاطمة لؤلؤتا الإنسانية" الصادر حديثاً عن دار "المحجّة البيضاء" وإن كان عرضاً للسيرة، لكنّه جاء ممتعاً ونفيساً بما يحمل من فوائد ومعلومات متنوّعة كالإضاءة الوافية على كلمة نصارى وكلمتي مريم وفاطمة ... وسرّها المقدّس، ولقطات مهمّة للعديد من ملامح سيرتها المباركة كضحكها فرحاً عند إخبار أبيها لها أنها أول اللاحقين به، لكأن الموت المرعب كان لحظتها بشارة!. وفسيفساء أخرى حميمة كالإشارة إلى مرور السيد المسيح في طريقه من الجليل إلى صيدا بوادي فخر الدين المحاذي لمدينة النبطية، حرّكت بها أوتار الأصالة والتعايش في قلوب النبطانيين.

يأتي هذا التوأم المتناعم الجميل في يوم المرأة العالمي هدية ثمينة ومعبّرة تقدّمها الأديبة لطيفة الحاج قديح للمكتبة العربية، هي بين ما كتب عن المرأة في الفكر والأدب الحديث "لؤلؤة" مميّزة وجاذبة.

لقد تمكنت لطيفة الحاج قديح أن تتحفنا بكمّ واسع متتابع من المعلومات عن تاريخ (وضع المرأة) والمعاناة المرّة التي عاشتها على مرّ العصور، والتي تعيشها اليوم، والسُّبل المتاحة أمامها لتحقيق أحلامها المشروعة في مساواة الرجل_ ضمن احترام كلّ منهما_ في سياق ممتع تدعم معلوماته شهادات وأقوال لرجال دين، وكتّاب عرب وأجانب، في صياغة أدبية: متينة وسلسة، في آن، تطالعك بسطورها بيين الحين والحين، صور وتابلوهات جميلة لكأن ريشة زوجها الفنان الكبير مالك قديح قد رسمتها!


إمام مدينة النبطية

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم