السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

الحراك المدني والسلطة: صراع ثقافات؟

حليم شبيعة
A+ A-

تشهد بيروت صراع الثقافات. هذا الصراع ليس صراع حضارات أو أديان، بل هو صراع قيم ثقافية واقتناعات حول مسائل متعلّقة بالهوية، وبمفهوم الحقوق المدنية والسياسية.


لم يبدأ الصراع مع تظاهرات "طلعت ريحتكم" بسبب أزمة النفايات. يمكن القول أنه نتاج سنوات، بل عقود‪‬ من العمل على القضايا السياسية والاجتماعية التي يقودها اليوم نشطاء وجمعيات غير حكومية تُعنى بمجموعة واسعة من المواضيع، بما فيها: الإصلاح الإنتخابي، الزواج المدني، إلغاء الطائفية السياسية، حقوق المرأة، حقوق الطفل، إشراك وتفعيل المجتمع المدني، الوصول إلى العدالة وحملات مكافحة الفساد والإصلاح الإداري.
وقد سلّطت التظاهرات الأخيرة، مدعومةً بمواكبة إعلامية لافتة لنشاطات الحراك الضوء على هذه المسائل وكشفت هذا الصراع الثقافي الذي كان ربما مستوراً، أو أقلّ وضوحاً. وفي ما يلي موجز للبعض من هذه المسائل:
أوّلاً، نظرة النشطاء والمتظاهرين لأنفسهم كمواطنين / مواطنات بشكل أساسي تتنافى بوضوح مع النظام السياسي اللبناني المبني على مبدأ تعايش التراثات الدينية المختلفة - بحيث يعرّف المواطنون عن أنفسهم بشكل رئيسي كأفراد ضمن دين أو مذهب معيّن. ولا يقتصر هذا الشعور بالانتماء على الطابع الروحي فقط. ولكنه يحمل أيضاً دلالة قانونية نظراً للاستقلالية الذاتية التي تتمتّع بها المحاكم الروحية في إدارة قوانين الأحوال الشخصية.
بالفعل، ثمة ابتعاد واضح عن مفهوم امتيازات أو مظالم المجموعة، أي مثلاً الدعوات إلى إسترجاع حقوق المسيحيين، الكلام عن مظالم السنّة، أو معالجة مخاوف الشيعة. ولكنّ المطالب الأساسية للحراك مرتبطة بأبسط المسائل الحياتية اليومية للمواطن، مثل النفايات والكهرباء والماء وإلى ما هنالك.
كما يمكننا رؤية هذا التصادم من خلال المطالبة بمبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة، بالمقارنة مع ثقافة سائدة تمتاز بالسرية والمحسوبيات والفساد وأشكال عديدة أخرى من إساءة استخدام السلطة. وهذا واضح في تقدّم الحراك بعدد من الشكاوى والإخبارات ليحقّق فيها النائب العام المالي.
كما أنّ الحراك شجّع ثقافة المساءلة والتدقيق في الوقائع بفضل تنوّعه، إذ يضمّ ناشطين ومحامين وسياسيين وفنانين ومؤرخين وخبراء الإعلام الرقمي ومؤسسات المجتمع المدني. معاً، يحضر هؤلاء خبرة واسعة في مجالات عديدة وإمكان وصول إلى الأرشيفات. وبالتالي، بات شائعاً التدقيق شبه الفوري في مزاعم السياسيين، والإشهار العلني في حال وجود تضارب معلومات أو محاولات مزعومة لتضليل الرأي العام.
قد تكون هذه المرّة الأولى في تاريخ التغطية الإعلامية السياسية المعاصرة التي يشعر فيها السياسيون أنهم بحاجة إلى توخي الحذر في اختيار كلماتهم، خصوصاً في ما يتعلّق بالأموال العامة. قد يقول البعض إنّ النخبة السياسية كانت في السابق قادرة على التحكّم بشكل ملحوظ في سرد الأحداث (narrative)، إذ لدى هذه الجهات موارد مهمة تحت تصرّفها (قنوات تلفزيونية وصحف ومواقع إلكترونية ونقّاد وأولياء). ولكن بفضل "تبنّي" الحراك حديثاً من قبل محطّتين تلفزيونيتين صاحبتي تأثير مهمّ، بات بمقدور الشعب أن يستمع إلى نسخة مغايرة للأحداث، أي الخبر من وجهة نظر خبراء حياديين يكشفون أحياناً ما يروجه إعلام السلطة من شائعات وأضاليل مزعومة.
هناك أيضاً مفهوم متضارب كلياً حول حقوق الإنسان، وتحديداً في ما يخص حقّ التعبير عن الرأي المكفول في الدستور والمعبر عنه في شرائع ونصوص القوانين والتشريعات الدولية لحقوق الإنسان. ويتعلّق صراع الثقافات هذا بشكل أساسي بالحدود والشروط التي يمكن الدولة أن تفرضها شرعياً (legitimately) على الفرد في هذا الخصوص. برزت هذه المسألة على خلفية مقاضاة عدد من الأفراد بسبب الآراء التي عبّروا عنها على وسائل التواصل الاجتماعي - وحتى بسبب الرايات التي حملوها خلال التظاهرات!
والملحوظ هنا هو اختلاف الآراء المتعلّقة بحقّ "الإساءة إلى الآخر" (the right to offend). عندما انتُقد أحد قادة الحراك بسبب نكتة غرّدها على تويتر حول عيد الفصح، برز صراع الثقافات. فمن جهة، اعتبر البعض تغريداته دليلاً قاطعاً على أنه غير قادر على قيادة حراك كهذا وغير مؤهل لذلك. ومن جهة أخرى، رأى البعض أنه من حقه كفرد أن يعبّر عن آرائه بحريّة، حتى ولو كانت المسألة دينية وقد تسيء إلى بعض أفراد الشعب اللبناني (تجدر الإشارة إلى أن موضوع "الحق في الإساءة" يحتاج للمزيد من البحث والمناقشة في وقتٍ آخر.)
أخيراً، يعتبر البعض الحراك ضعيفاً لأنّ "الشباب" يحشدون دعم الشعب، ويقودون التظاهرات في الشوارع، ويرسمون ملامح الحراك العامة. ويمكن قراءة بعض الدعوات لتعيين قيادة واضحة للحراك اعتباراً ضمنياً أنّ الشباب غير قادرين على إحداث تغيير وغير مؤهلين للخدمة العامة، على الأقل في أدوار قيادية. وهذا يدلّ على توجّه عام في الثقافة اللبنانية يحدّد فيه "العمر" بحد ذاته قيمة الرأي، ويحكم عليه بأنه أهل لأن يُسمع أو ألّا يُسمع.
إنّ التذرع بالعمر أو السلطة في الحجج والنقاشات، واستبعاد الطرف المعارض من الشباب، يشير إلى ثقافة أبوية وهوس بالهرمية والتقاليد. ولكنّ الواقع هو أنّ الشباب في هذا الحراك هم رأس حربة النهضة الوطنية المرجوة لمؤسسات الدولة، استناداً إلى احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان. وقد يكون هذا النهج الجديد الذي يتّبعه الحراك الشعبي (grassroots movement) يقف وراء نجاحه بالتوسع، ووراء استقطابه لشرائح مختلفة من المجتمع اللبناني بحيث بات تأثيره واضحاً.
ويبقى "السؤال الوسواسي" الذي يُوجّه بشكل شبه يومي، ومنذ بدء الحراك، "مَن وراء الحراك؟"، حاملاً في طيّاته تلميحات إلى أنّه من المستحيل أن يكون "الشباب" قد التحموا وشكلّوا حراكاً فعالاً يتحدّى النظام الفاسد— النظام الذي لا يزال يقاوم محاولات الإصلاح والمساءلة وتعزيز الشفافية وتسود فيه ثقافة الإفلات من العقاب. في هذا السؤال أيضاً اتهام ضمني للحراك بأنه عميل لمشروع أكبر أو مؤامرة إقليمية أو دولية أحياناً. هذا السبب مرده إلى أنه، وبحسب الثقافة السائدة، "لا بدّ" من وجود يَد خارجية تدير العقول الشابة التي هي في حاجة حتمية إلى راعٍ أو وصي.
كخلاصة لهذا الطرح الموجز لقضايا تحتاج للمزيد من البحث، يمكن القول إنّ لبنان لا يشهد على تعبير غضب شعبي تجاه أزمة النفايات وحسب، وإنما بات ساحة صراع ثقافي بين نظام سياسي متمسّك ومتعنت بأساليبه البالية، وجيل جديد من المواطنين (يضم مختلف الأعمار) ذوي رؤية لطريقة عمل جديدة. وهذه الرؤية متجذرة في مفهوم الدولة ككيان ذي مسؤوليات تجاه المواطن من حيث إحترام حقوق الإنسان (duty-bearer)، ومفهوم الفرد كصاحب حقّ (rights-holder) وبالطبع، صاحب مسؤوليات أيضاً. وهذه الحقوق لا يمكن الانتقاص منها تحت أيّ ذريعة (مهما كانت طبيعتها) لا تتوافق مع روحية المبادئ العامة المعترف بها في مقدمة دستورنا الذي ينصّ على أنّ "لبنان عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقوق والمجالات من دون استثناء."


باحث وأستاذ جامعي


تم نشر هذا المقال أساساً باللغة الإنكليزية في صحيفة Huffington Post

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم