الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مسرح - "يا يحيى جابر... خُذ الكتاب بقوة" تجريبية مسرحة السيرة الذاتية

وطفاء حمادي
مسرح - "يا يحيى جابر... خُذ الكتاب بقوة" تجريبية مسرحة السيرة الذاتية
مسرح - "يا يحيى جابر... خُذ الكتاب بقوة" تجريبية مسرحة السيرة الذاتية
A+ A-

ندخل إلى مسرحية "يا يحيى جابر... خذ الكتاب بقوة"، على إيقاع موسيقى طالعة من أوانٍ وقنانٍ ومن طناجر ركنها طارق بشاشة في زاوية المسرح وانزوى معها ليطلع علينا برنة أدواته وإيقاعاتها التي تولّد بيئة مسرحية تتلاءم وثيمة العرض، في مساره التجريبي.


هي ثيمة يبني يحيى جابر مكوّنات نصها من توليفة شعرية تسرد في سياق يتفوق على الخلط الذي يعتمده ليكتمل السرد في المسرح ويوثق إلى لحمة الدراما المسرحية. السرد في هذا العرض لا يتكئ على رواية أو قصة أو نص مسرحي درامي، بل هو مستمد من سيرة ذاتية، سيرة يحيى، الكاتب والشاعر والممثل والمخرج، والدراماتورج الذي يولّف النص وسيرة المواطن. هي السيرة الملتصقة بسيرة المدينة، وبانكساراتها التي كانت تسببت بانكساراته، وجعلته متماهيا بها، بحيث لم يعد يحيى هو المواطن المنحوس ولا السياسي الفاشل، بل صار الوطن كله منحوسا؛ الوطن الذي اغتالته الحروب، وعمّه الفساد على أيدي سياسييه. وما تغيير مواقف يحيى السياسية إلا دلالة على تغير المسارات السياسية في الوطن، وتغيير الانتماءات إلى الداخل والخارج وليس الانتماء إلى الوطن.
ينبني هذا النص من سيرة الألم وليس من سيرة الرجل المنحوس: سيرة وجع الذات الممزوج بوجع الوطن: إذ ماتت الأم ومُنع جسدها المسجى من أن يوارى الثرى في تراب بلدتها، بسبب الحواجز التي تقفل وتفتح وفقا لمزاج الاحتلال. هكذا هي حال الوطن. وإذ يفشل يحيى في المحافظة على استمرار علاقاته مع المرأة، التي تشغل حيزا كبيرا من مساحة النص، فإنه يصير ملكاً للغضب بعد تطاولها على سلطته الذكورية. هو لم يعد الحبيب بل يصير الصديق، فيمزج في نصه قهره من المرأة مع قهره من السياسيين في البلد.
يربط يحيى جابر سيرته ربطا محكما بسيرة الوطن؛ هو الإنسان الذي يعشق ويفشل؛ هو المواطن الذي يعاني غربته في وطنه؛ هو من يبحث عن هوية سياسية فيفشل. ومن خلال هذه السيرة نتشارك مع يحيى الإنسان، ويحيى المواطن.
كيف يتمكن يحيى جابر من تجسيد هذه السيرة المتألمة، المتأرجحة بين النحس والوجع على الخشبة، وبأي نوع مسرحي وأدائي يجسدها؟


كوميديا سوداء
بأسلوب كوميدي يقارب الكوميديا السوداء، تطلع علينا هذه السيرة، بلغة مبسطة، تجعلنا نضحك حتى الألم، لأن يحيى جابر يورّطنا بأسلوب كوميدي في لعبته المسرحية، وفي الدخول إلى مأساة الوطن، مستخدماً صيغة أدائية توظف الجسد لغايات كوميدية، إضافة إلى إيماءاته البالغة الدهاء، حيث يطوعها لتأتي ملائمة للمشهد المطرز على قوافي القصيدة، وعلى لغة الحوار المصوغ بأسلوب هزلي، إضحاكي، موجع. يستخدم يحيى الممثل والشاعر والمواطن، هذا الأسلوب ليقترب منا ولينتزع تفاعلنا معه.


خارج نطاق المسرح التقليدي
لا يخضع مكان هذا العرض وخشبته لشروط خشبة العرض المسرحي التقليدية، بل يعتمد يحيى جابر لإخراجه صيغة كانت استخدمت في صيغة عرض مسرح المقهى، حيث تأخذ طابعا تجريبيا يعمل على خلق علاقة مختلفة ومباشرة مع المتلقي، كما في مقهى المحطة café de la gare الذي اشتهر في باريس. في عرض يحيى جابر كما في هذا المقهى يبرز الاتكاء على نص يتميز بحواره المباشر وتوليفته الشعرية حينا، وبلغته الرمزية ذات الدلالات المتنوعة حيناً آخر، "لم تكن ضرورية تلك السفينة يا نوح".
تماشيا مع بيئة النص المؤلف من السيرة الذاتية وسيرة الوطن، وانسجاما مع نوع مسرح المقهى، يتحرك يحيى على حيز صغير من خشبة تضاءلت مساحتها بسبب صغر المكان، لكي يصبح التركيز على الممثل/ المؤدي المماثل لممثل مسرح القهوة، الذي يصنف بأنه مسرح الممثل، والذي نستحضر من خلاله ممثلي مسرح القهوة، حيث اشتهر بعضهم بعروضهم المتميزة كالفرنسي جيرار دوبارديو. لكن يحيى لم يكن يتقن التمثيل على الخشبة بل كان يتنقل عليها ليتلو توليفته على مسامعنا، لننزاح عن رغبتنا في أن نشاهد ممثلا يتقن استخدام جسده، ويعبر من خلاله، عن ثيمة نصه، فنكتفي بمشاهدة مؤد يختال على هذه الخشبة الفقيرة الخالية من الديكور باستثناء بعض الأدوات السينوغرافية التي تشكلت منها الآلات الموسيقية والطناجر والقناني الزجاجية، والسلّم الذي يستخدم للصعود والهبوط للدلالة على السقوط والفشل، والنجاح المأمول.
تدخلنا هذه العناصر المكونة لبنية العرض في توليفة شعرية تجمع بين شعره وحضور أدائه التجريبيين. يكثف يحيى المخرج والمؤلف والممثل كل الحوادث التي تكون بنية توليفته بأسلوب كوميدي ساخر يظل يتطور من أول العرض حتى نهايته. وإذا كان يستهل بدايته بإيقاع بطيء وممل عندما يطل على الخشبة، فجعلنا متخوفين من الوقوع في فخ الثرثرة واللغو المجاني في المسرح، فإن المخرج يحيى سرعان ما ينتشل الإيقاع من بطئه، ويسلك به متصاعدا ومتطورا، ليعود ويستحوذ على كل حواسنا، ويجعلنا نتعامل بمتعة مع عرض تتوفر فيه شروط الجذب للمشاهدة.
ينجح يحيى جابر، بعد أن يأخذ كتابه من أبيه، في إدخالنا في لعبته المسرحية التجريبية، فنخرج من العرض ونحن نناقش مقدرته التوليفية على خشبة مسرحية فارغة الا من حضوره الجميل المتحرك على إيقاع موسيقى طارق بشاشة التجريبية والمتلائمة مع إيقاع العرض.


¶ استاذة النقد المسرحي في الجامعة اللبنانية.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم