الأحد - 19 أيار 2024

إعلان

المعلم علي: أنا بدي إشتغل كندرجي؟

سلوى أبو شقرا
A+ A-

عُمْر المعلم علي 56 عاماً، مرَّ خلالها بصعوبات عدَّة وعاش بين لبنان والخارج يكافح من أجل العيش، تعلَّم وعمل في مجالات مختلفة، إلاَّ أنَّ المهنة التي تعلمها من والده، وابتعد عنها لسنوات، عادت وجذبته إليها.


 


نافست أبي في مهنته


كان والد المعلم علي إسكافياً (كِندرجي). أما علي ابن الـ7 سنوات فكان يأتي كل يوم إلى محل والده بعد رجوعه من المدرسة، حاملاً معه غداء الوالد، إذ إنَّ المنزل كان قريباً من المحل. وهناك كان يساعده في البويا وتصليح الأحذية. سنة بعد سنة، كبُر علي وهو يرى والده يعمل بشكلٍ خاطىء بحسب رأيه، ويقول: "عَملُ والدي كان "شغل إسكافي" حيث كان يقوم بحفِّ الكعبية بيده، ويبدو الحذاء غير جيِّد. لذا، قمت بجلب موتور غسالة ووضعت "فراش" له وصرت أعمل عليه. وبدا عملي جيداً، وصرت آخذ 40 ليرة كلفة تصليح الحذاء يوم كان سعر الحذاء الجديد 40 ليرة. وعندما صرت شاباً كان أبي ينزل إلى المرفأ ليمارس هواية صيد السمك، وكان يتركني في المحل أيام العطلة، ويطلب مني أن أوافيه في تمام الساعة الرابعة عصراً إلى هناك حيث كان كل صياد يتخذ صخرةً له. خلال العمل، كان يأتي أصدقائي إلى المحل ليطلبوا مني تحويل أحذيتهم العادية لتناسب الموضة التي كانت رائجة يومها في عام 1974، مثل الكعب العالي للرجال والبوز العريض، فكنت أحوِّل هذه الأحذية. في عام 1979 توظفت في المرفأ، وكنت آتي إلى محل والدي فأجد أكياساً مليئة بالأحذية تركها لي للتصليح، فالزبائن كانوا يقصدون المحل من أجلي قائلين لوالدي "نريد أن يقوم ابنك بإصلاح أحذيتنا لا أنت".


 


بين الاغتراب والحرب


يضيف المعلم علي: "بعد مدَّة، سافرت إلى دولة عربية حيث عملت في ديكور الأسقف المستعارة والجفصين والتعتيق والتلوين، بعد أن درست الرسم الهندسي في معهد المدرسة الدولية الذي كان موجوداً في ساحة الشهداء. عملت في الخليج مدة سنتين ووصل راتبي إلى 40 ألف ريال شهرياً. وكنت أرسل المال إلى لبنان لكنَّ والدي صرفه في الكازينو. لاحقاً، عدت إلى لبنان وبدأت أعمل في تجارة الثياب بالجملة وبتُّ أشغِّل 5 معامل "تريكو"، محلان في الحارة والبرج، و3 معامل في طرابلس. ثمَّ كنا نضع البضاعة في "سوق الروشة" الذي كان يمتد إلى منطقة الرملة البيضاء وهو يشبه سوق الأحد في أيامنا هذه. كانت البضائع تصل من طرابلس في الساعة 4، لتُباع جميعها بحلول الساعة الثامنة. وصار زبائني يعرفونني ويثقون بي، وكان التجار العراقيون يأتون إليَّ لشراء كميات هائلة من البضائع وخصوصاً أنَّ هذه المنطقة كانت جاذبة للناس والتجار".


 


أنا بدّي إشتغل كندرجي!


عام 1982 حصل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت فُجرف السوق، ووقع فيه انفجاران، يخبر المعلم علي قائلاً: "هذه الأحداث جعلتني أخسر حينها أكثر من 127 ألف ليرة. عندما توقف عملي، جاء صهري وقال إنَّ محلاً في منطقة الحدت بحاجة إلى من يعمل في تصليح الأحذية، فأجبته يومها: "أنا بدي إشتغل كندرجي؟، بعد أن كان راتبي 40 ألف ريال شهرياً في الخليج، معقول؟"، فأجابني: "إذهب وجرِّب". ذهبت إلى هناك فوجدت المحل مرتباً جداً، وكبيراً وفيه أيضاً سكريتيرتان، كانتا تستلمان الأغراض وتحضِّران الفواتير. قال لي صاحب المحل أن القسم المخصص للتصليح موجود في الطابق الأول، ففرحت بأن لا أحد سيراني. وسألني: "هل تعرف كيف تصلح وتغيِّر الأحذية؟"، فكنت أجيبه بـ"نعم"، ثمَّ سأل عن المرتب الذي أريده فأجبته 3 آلاف ليرة لبنانية، فتفاجأ، مردداً أنَّ عاملاً أجنبياً يعمل في المحل يتقاضى 200 ليرة لبنانية فقط لا غير. وبعد مفاوضات توصلنا إلى مبلغ 2000 ليرة، على أن يرى إذا كان عملي جيداً، عندها قد يقوم بزيادة الراتب. قلت في نفسي: "يا صبي اشتغل". لاحقاً خلال أيام العمل كنت أسمعه يقول لزبونة إنَّ هذا التصليح لا يمكن إجراؤه، وذاك صعب، فكنت أنزل وأجيبها: "أعطني إياه أنا سأقوم بإصلاحه". انتهى الشهر الأول من العمل التجريبي فوجد صاحب المحل أن ربحه تضاعف، فكان يزيد راتبي كل 4 أشهر 500 ليرة، وعملت هناك مدَّة عامين".


 


البدء من الصفر


بمرور الوقت، طوَّر المعلم علي عمله وبدأ بصناعة "آركات" (أو ما بيعرف بالقوس الطبي) المخصص للأحذية. ويقول: "بتُّ أصنع أحذية وقوالب خاصة بناءً على طلب الأطباء، فإذا كان واحد يعاني من إعوجاج في قدمه كنت أقوم بتصنيع حذاء خاص به، إلى أن لقَّبني الأطباء بــ"البروفسور"، وباتوا يرسلون إلي مرضاهم". عندما تفاقم الوضع بين الشرقية والغربية، قررت البقاء في منطقتي، فتركت العمل في منطقة الحدت، واستأجرت محلاً خاصاً بي. افتتحته وكان العمل هائلاً، كان لديَّ دفاتر فواتير كنت أملأ 3 نماذج منها يومياً، ووصل عدد زبائني إلى 150 زبوناً". بقي العمل جيداً لغاية عام 1992، إلى أن اضطررت للذهاب إلى أوستراليا، لإجراء عملية لشقيقي الذي كان مصاباً باللوكيميا. بقيت 3 أشهر في أوستراليا، حيث دفعت تكاليف عملية شقيقي وسفر والدي وسفري. أقفلت المحل وكان الزبائن يأتون للسؤال عني، فكان جيراني التجار يجيبونهم بأنَّ "علي ذهب إلى أوستراليا، ومن يذهب إلى هناك لا يعود". بعد مرور 3 أشهر على سفره، عاد علي بعد أن دفع أموالاً طائلة لعلاج شقيقه، وكان قد خسر زبائن كثر ظنوا أنه هاجر.


 


ما في نصيب


يُخبر علي عن حادثة قد تكون مضحكة محزنة في الوقت نفسه، يوم كان يعمل في منطقة الحدت حيث أُعجب بفتاة وذهب لطلب يدها، فسأله أهلها ما هي مهنته، فأجاب: "كندرجي"، نظروا إلى بعضهم، وسألوه كم يبلغ مرتبه، فأجاب: "3500 ليرة لبنانية"، ظنوا يومها أنه يكذب عليهم. فأجابوه: "ما في نصيب". لاحقاً، تزوج علي وأنجب 4 أبناء، واحد منهم فقط أحب هذه المهنة. بينما ابنه البكر أحبَّ العلم أكثر وأصبح طبيب أشعة، وابنتاه واحدة تدرس تربية حضانية، وشقيقتها في البكالوريا. وحده الصغير رفض العِلم وأصرَّ على تعلم المهنة، وهنا يقول المعلم علي: "اليوم عمر ابني 24 عاماً وأصبح "معلِّم"، هو يعمل حالياً في المحل الذي تركه والدي، هو له محله وأنا لي محلي".


 


شايف حالي بمصلحتي!


يفتخر المعلم علي أنَّ زبائنه ليسوا فقط من أبناء المنطقة، بل كثيرون يأتون إليه من كل لبنان وكذلك من الخارج لتصليح أحذيتهم، منهم فنانون ومذيعون في الإذاعة والتلفزيون. ويقول: "لا أعتمد على تصليح الأحذية المستعملة، أو القديمة، بل يقوم عملي على تصليح أحذية كلها ماركات، تبدأ أسعارها من الـ 300 دولار لغاية الـ 1500 دولار وأكثر. كما أنني أعمل لصالح معامل ومحال يطلبون مني تغيير ألوان مجموعة أحذية معينة، أو رفع نعل، أو تقصير وتوسيع الأحذية الشتوية. المصلحة واسعة، والمهنة لم ولن تنقرض".


 


المعلم علي كان طموحاً جداً إلاَّ أنَّ ظروف حياته كانت أصعب، لكنه رضي بواقعه وأحبَّ مهنته وها هو يبرع فيها يوماً بعد يوم، مؤكداً أنَّ الإنسان هو من يضفي قدرةً وتميزاً إلى مهنته.


 


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم