الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

محمد حسنين هيكل وثورته الثقافية

السيد يسين - القاهرة
A+ A-

استطاع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في حديث تلفزيوني أخير أن يرسم بدقة بالغة وبرؤية صافية مرحلة انهيار النظام العالمي القديم وبداية نشوء نظام عالمي جديد.


يمكن القول أن انهيار النظام العالمي القديم كان رمزه البارز انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية عصر الحرب الباردة، التي دارت فيها معارك إيديولوجية وسياسية ضارية بين الماركسية كما طبقت في الاتحاد السوفياتي، والرأسمالية التي كانت الولايات المتحدة الأميركية رمزها البارز.
وقد أدى سقوط الاتحاد السوفياتي إلى تحول النظام العالمي من نظام ثنائي القطب يتصارع في سياقه الاتحاد السوفياتي من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، إلى نظام أحادي القطب انفردت فيه الولايات المتحدة بالجلوس على قمة العالم.
وقد أدى غرور القوة المطلقة بالولايات المتحدة إلى أن تنفرد بقرار شنها الحرب ضد العراق، بزعم أن نظام صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، بالرغم من معارضة الدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن.
بل إن هذا الغرور الإمبراطوري انتقل للأسف إلى مراكز الأبحاث الاستراتيجية الكبرى وفي مقدمتها مؤسسة "راند"، التي نشرت منذ سنوات بحثاً تضمن فكرة رئيسة مؤداها أن الولايات المتحدة من حقها كقطب أوحد إجهاض محاولة أي دولة تحديه حتى باستخدام القوة العسكرية!
كان ذلك منذ سنوات قبل أن تتعثر الإمبراطورية الأميركية في خطاها، وتبدأ مرحلة الأفول ليس بسبب أزمتها الاقتصادية فقط، ولكن بحكم ظهور أقطاب جدد كالصين والهند تشير إلى الانتقال من العالم الأحادي القطب إلى عالم متعدد القطب.
وربما ما ميز حديث الأستاذ هيكل أنه لم يركز فقط في مجال شرحه لعملية الانتقال من العالم القديم إلى العالم الجديد على المناهج التقليدية التي كانت تركز على مبادئ نظرية توازن القوى، ولكنه مارس منهجية التحليل الثقافي بصورة عميقة حين رسم ملامح العالم الجديد وركز على الظواهر الثقافية البازغة.
وقد شرح فكرة سقوط الدولة الوطنية داخل الحدود المستقلة كما ورد في كتاب هنري كيسينجر "النظام العالمي" الذي صدر حديثا مقرراً "إذا كان واقع القوى يتغير والدولة المستقلة سقطت فذلك لأنها أصبحت مكشوفة بالكامل أمام نظام مالي عالمي وأمام وضع عالمي به الفن والاتصال والرياضة وأسواق المال".
والواقع أن الأستاذ هيكل يشير بذلك إلى ظواهر العولمة المتعددة الدولية والسياسية والفكرية والثقافية. والاتصالية، والتي أثرت على بنية المجتمعات المختلفة وعلى القيم السائدة فيها.
والواقع أن تحليلاته العميقة عن مظاهر تحول النظام العالمي والذي لم تتضح معالمه كاملة حتى الآن تحتاج إلى مناقشات متعددة، ولكني وقفت طويلاً أمام قوله في عبارة جامعة "نحتاج إلى ثورة ثقافية لتصنع صحيح الدين والتاريخ والعلم".
والواقع أننا إذا حلّلنا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في مصر الآن لاكتشفنا أننا في الواقع في حاجة إلى ثورات عدة لا ثورة واحدة. ثورة اقتصادية تغير بناء الاقتصاد المصري على أسس وطيدة أخذا في الاعتبار ظاهرة العولمة بكل أبعادها، وثورة سياسية تجدد النظام السياسي بصورة جذرية بما يكفل مشاركة كل الأجيال السياسية المصرية في بناء مصر الجديدة، وثورة اجتماعية تجسر الفجوة الطبقية العميقة والخطرة بين الأقلية من الاغنياء الذين كونوا ثرواتهم المهولة سواء بطريقة مشروعة أو غير مشروعة، أو بمعنى آخر "سكان المنتجعات" والغالبية العظمى من الشعب ممثلة في الطبقات الفقيرة (26% من المصريين تحت خط الفقر) ممن يمكن أن يطلق عليهم "سكان العشوائيات" (يعيش فيها 16 مليون مصري).
وتبقى أخيراً الحاجة الملحة إلى ثورة ثقافية من شأنها أن ترسخ جذور الدولة الحديثة والمواطنة، وتقضي على منابع التطرف واتجاهات الإرهاب.
ويمكن القول أن الأستاذ هيكل في تحديده لملامح الثورة الثقافية الثلاثية البعد والتي تقتضي ترسيخ قيم صحيح الدين، وصحيح التاريخ وصحيح العلم، تمثل محاور أساسية يمكن أن تقوم عليها النهضة المصرية الجديدة.
غير أن هذه المحاور تواجه في الواقع مشكلات متعددة نظرية وعملية.
وأول هذه المحاور ترسيخ قواعد صحيح الدين. ونحن نعرف أنه دارت معارك فكرية كبرى بين المثقفين المصريين الذين أرادوا تجديد الفكر الديني في الثلاثينات وعلى رأسهم طه حسين وعلي عبد الرازق وعدد آخر من الكتاب الذين أدركوا خطورة الخضوع للتفسيرات التقليدية للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وبين المشايخ وحلفائهم من المثقفين التقليديين الذين حاربوا مشروع تجديد الفكر الإسلامي.
غير أن المعارك الراهنة تجاوزت بكثير محاولات التجديد الفكري، لأننا أصبحنا بصدد نشوء حركات إسلامية إرهابية مارست جرائم متعددة ليس ضد السلطة فقط ولكن ضد جموع الشعب. وآخر هذه التنظيمات تنظيم "داعش" الذي أعلن عن قيام دولة إسلامية في سوريا والعراق واختيار أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين. ومعنى ذلك أننا بصدد معركتين فكريتين. الأولى ترسيخ قواعد صحيح الدين بتعبير الأستاذ هيكل، والثانية مواجهة الفكر الديني المتطرف الذي أنتج الجماعات الإرهابية المتعددة والتي أصبحت لها فروع في كل الدول العربية بلا استثناء.
أما المحور الثاني وهو صحيح التاريخ فنحن بصدد إشكالية كبرى نظرية ومنهجية وعملية على حد سواء. وذلك لأن التاريخ الحقيقي ينبغي أن يتسم بالموضوعي.
وفي هذا المجال هناك ظواهر مرضية شتى أبرزها التحيز المسبق لكاتب التاريخ إزاء حدث مثل ثورة 23 يوليو 1952، أو إزاء شخصية تاريخية مثل جمال عبد الناصر. فذلك من شأنه في الواقع تزييف التاريخ.
ويبقى بعد ذلك التركيز على صحيح العلم، والواقع أن هذا المحور يتضمن مشكلات متعددة أهمها على الإطلاق ترسيخ قواعد الثقافة العلمية في المجتمع، والعمل على تبسيط العلوم حتى يستطيع المواطنون العاديون متابعة أنشطة البحث العلمي المختلفة.
غير أنه أخطر من ذلك كله مواجهة سيادة التفكير الخرافي في المجتمع سواء نتيجة شيوع تفسيرات دينية زائقه، أو نتيجة تدني الوعي الاجتماعي والثقافي.
صحيح العلم في رأينا لا يمكن أن ترسخ قواعده بغير الاعتماد على تاريخ العلم وفلسفة العلم وسوسيولوجيا العلم.


باحث مصري

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم