الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

صوت فيروز لا صوتهم... "يا فرنسا شو بقلن لأهلك عن وطني الجريح؟"

المصدر: "النهار"
فيروز (أ ف ب).
فيروز (أ ف ب).
A+ A-
لبنان الكبير الجميل الذي أنهكه العزف على أوتار الطائفية والمناطقية والزبائنية السياسية، يبدو في عيده المئة أكبر مئة مرة من عمره الحقيقي، في معايير كيان حديث النشأة. لكنه يبقى "وطن مستقل، مزدهر ومثقف" بنظر فرنسا، كما رآه ديغول عام 1965، وربّما وجه لبنان الّتي تحرّاه ماكرون منذ الفاجعة الأخيرة، ليهتدي أخيرًا الى وتر آخر اقترح فيه هذا الوجه للبنان: ماذا لو أصغينا الى صوت فيروز؟
 
لقد استغرق صمت فيروز أزمنة طويلة لنستوعبه، ولنرضخ أخيراً لصهره بهويتها الفنية والانسانية. لكنّها "اللحظة" في 4 آب التي حسمت بدون شائبة، فرضية أنّ صمت فيروز هو مطلق الحكمة بعدما أثبت ما حوله أنه كلام لا يرقى عن "فصيلة" الادعاءات والتنمر وكراهية الآخر. وبات مسلّمًا أن كلّ أوتار السياسية، كيفما اختلفت لعبتها وأوجهها، هي أوتار تصطاد الشرذمة في المياه العكرة، لذلك لا يبقى لخلاص لبنان المئوي سوى وحدة أبنائه.
 
نكبة جعلتنا نتبنى كما الرئيس الفرنسي حكمة أن لا شيء على مرور أزمنة هذا الوطن توحّد حوله اللبنانيون كصوت فيروز، الذي دفعه حسب بيان الايليزيه الى "سعي شخصي للغاية من جانبه، نظرا لإعجابه وتأثره معًا"، ليستهلّ جولته بزيارة فيروز الّتي "تجسّد بحدّ ذاتها حكاية".
 
مؤلمة سرديّة لبنان الكبير الجميل، وكأنّ لا حقيقة في نكباته صعبة التّصديق، تضاهي حضور هذا الصوت الّذي شكّل سوناتا التأمت مع ذاكرة اللبنانيين الجماعية والعالم، كلّما تهادى اليهم مشاهد الموت والخراب. مما جاء فيها خلال الحرب الأهلية، وقوف فيروز في الأولمبيا باريس، عام 1979، حيث صدحت المدارج بأغنية "باريس، يا زهرة الحرية" في بوح متردد لكنه ضدّ الانكسار "يا فرنسا شو بقلن لأهلك عن وطني الجريح، عن وطني المتوج بالخطر وبالريح، قصتنا من أول الزمان، بيتجرح لبنان بيتهدم لبنان، بيقولوا بيموت وما بيموت، وبيرجع من حجارو يعلي بيوت، تتزين صور وصيدا وبيروت". ولاحقا يستخدم المخرج الفرنسي فريدريك ميتران، الذي شغل أيضا منصب وزير الثقافة، مقاطع من هذا الحفل لينتج وثائقي عام 1998 بعنوان "فيروز".
 
كتبت جودي الأسمر
 
لم تكن اطلالة الأولمبيا هي الأولى في صداقة فيروز بفرنسا، إذ ظهرت أولا على شاشة التلفزيون الفرنسي في عام 1975 ضمن برنامج "سبيسيال ماتيو"، الذي قدّمته الفنانة ميراي ماتيو صديقة فيروز في زمن كبار الفن هنا وهناك، وقدّمت أغنيتها الشهيرة "حبيتك بالصيف" التي نقل لحنها لاحقًا الفنان الفنان الفرنسي جان فرانسوا ميكائيل.
 
أعطت فيروز للبنان صوتًا في فرنسا التي كرّمتها بأرفع الأوسمة، منها وسام الرئيس فرانسوا ميتران برتبة قائد الفنون والآداب عام 1988، ومنحها الرئيس جاك شيراك بعد عشر سنوات وسام جوقة الشرف.
 
في مئويته المتشحة بذيول الموت، نريد لبنان أن ينتفضَ بشراسة ليكون "أسطورة لا يشحّ زيتها" مثلما وصفت الكاتبة الراحلة مي منسى ثورة فيروز الفنية مع ابنها زياد. لكنّ فيروز ثورة لا تذوي، في صمتها الثائر على كلّ رخيص وصوتها الذي خرق قماشة كلّ زمن فني بثورة متجددة، فـ"الرّحابنة رجال ثورة وانتفاضة بفطرتهم المبدعة، بأكاديميتهم الواسعة، نزعوا الغبار العتيق عن الأغنية". فيروز هي ثورة الفعل التي نحتاج، لا صوت جعجعاتهم ولا رنّة شعارات بدون رؤية.
 
ماكرون الّذي أغدق عاطفة كبيرة على أهالي بيروت، وعانقهم في أحيائها المكلومة، يطلّ عليها مجدداً من نافذة فيروزية تحمل لعائلاتنا التي فقدت بيوتها آمالاً كأنّها تشدو "سنرجع يومًا الى حيّنا"، ولعلّ العودة بقريبة. أولويتنا اليوم، هي حلم بسقف يدفىء جراحنا ويأوي حلمنا بغد أفضل، أو بما تبقى من هذا الحلم.
 
نغار اليوم من ماكرون، بقدر أيضًا ما ننتظر ما ستقول فيروز، أو تغنيه، أو تكتبه، أو تصمت عنه. لكن أجمل مشاركة لفيروز تكون "بصوتها وبوحها." فـ"عندما تقرأها، يغمرك الخدر السماوي كأنك تسمعها. وعندما تقرر فيروز أن تروي، فهي الأم الحزينة تغني، هي فصول حياتنا، بحزنها الأعمق وفرحها العالي" على ما يقول الكاتب سمير عطا الله.
 
غنّت فيروز للشام، ومكّة، وعمان، وبغداد ومصر، غنّت للقدس. صديقة فرنسا، مدّت أيضًا وترًا بين لبنان وامتداده العربي، بحب والتزام وتعاطف وبدون محاباة ولا تملق، لم يقطعها هبوب عاصفة دبلوماسية من هنا أو مشروع سياسي من هناك.
 
لكن بيروت في بحرها الحزين الذي يبتهله "وجه بحار قديم" هي الأحوج هذه اللحظة لتتعلم من كلمة فيروز، بعدما تعلّمت من صمتها الكثير. كلمة "سفيرة لبنان الى النجوم" نرتقبها اليوم بقدر ما تلح حاجتنا لكلمة لازمة، في بؤس زمن يبدو فيه خلاصنا أبعد من النجوم.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم