الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

اعتبارات غير حياديّة دفاعاً عن حياد لبنان

المصدر: النهار
غسان صليبي
اعتبارات غير حياديّة دفاعاً عن حياد لبنان
اعتبارات غير حياديّة دفاعاً عن حياد لبنان
A+ A-

موقفي المبدئي من مسألة الحياد هو الآتي: في حالات انتهاك الحقوق الإنسانيّة، من مثل الظلم والتمييز والعنف والإستغلال، أعتبر الحياد موقفًا لا إناسيًّا ولا أخلاقيًّا. إنه لا إنساني لأنه لا مبالٍ بمعاناة الإنسان. وهو لا أخلاقي لأنه يدّعي عدم التدخّل في الصراع في حين انه يعلم ان الصراع هو لصالح شخص أو جماعة، واذا تركه على سجيته، فإنما يمثّل ذلك إفساحًا في المجال للمزيد من القهر.

مناسبة الكلام عن الحياد هو طرح البطريرك الراعي مسألة حياد لبنان في النزاعات الدوليّة والإقليميّة، وإتخاذ الطرح أبعادًا داخليّة وخارجيّة.

لتحديد موقفي من حياد لبنان، سأنطلق من موقفي المبدئي: هل حياد لبنان هو موقف إنساني وأخلاقي؟ السؤال يفترض تحديد الجهة التي سنقيّم إنسانيّة الحياد وأخلاقيته بالنسبة اليها.

في إعتقادي ان هذه الجهة لا يمكن ان تكون إلاّ "الشعب اللبناني" على رغم غموض هذا المفهوم في إطار الإنقسامات المذهبيّة والطائفيّة.

في هذا السياق يصبح سؤالي: هل حياد لبنان هو موقف إنساني وأخلاقي تجاه الشعب اللبناني؟

للإجابة ينبغي لنا ننظر في الإعتبارات الآتية:

اولاً: دولة لبنان الكبير وإستقلاله قاما على تعاقد وطني، سمّي "الميثاق الوطني"، أطرافه نخب سياسيّة مسلمة ومسيحيّة، وعرّابوه قوى إقليميّة عربيّة، ودولية فرنسيّة. شعار الميثاق الوطني كان "لا شرق ولا غرب"، والمقصود لا تبعيّة للشرق ولا للغرب بل علاقة مع الإثنين في إطار إستقلال لبنان. هذا الميثاق الوطني لم يكن يعبّر فقط عن مواقف النخب السياسيّة بل أيضًا عن "الشعوب اللبنانيّة" المسلمة والمسيحيّة التي ارتضت تجاوز مشاعرها التابعة الى الخارج الإقليمي أو الدولي، وبناء وطن مستقل. بهذا المعنى، كان حياد لبنان عن الشرق والغرب شرطًا وجوديًّا لهذا اللبنان، وشرطًا لإستقلاله. بمعنى معاكس، ان التخلي عن هذا الحياد هو تهديد لوجود الكيان والإستقلال.

ثانيًّا: تغيَّرَ مفهوم الحياد وأبعاده، مع نشوء الكيان الصهيوني. فأصبح السؤال ما إذا كان على لبنان ان يكون حياديًّا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أو في الصراع الإسرائيلي العربي بعدما احتلّت إسرائيل أراضي عربيّة.

مهما قيل عن الإنقسامات الايديولوجيّة تجاه العلاقة بإسرائيل، بقي السلوك الرسمي اللبناني غير محايد: استقبل اللاجئين الفلسطينيين وعقد معهم لاحقا "اتفاق القاهرة" الذي سمح لهم بمواجهة إسرائيل عبر الأراضي اللبنانيّة.

ثالثًا: المفارقة التاريخيّة ان الذين تضرروا من لا حياديّة الدولة مع العدو الإسرائيلي ومن تفلت السلاح الفلسطيني، هم ابناء وبنات الجنوب اللبناني الذين هم اليوم أكثر الرافضين لفكرة الحياد. في المقابل، ان المتضررين اليوم من لا حياد فريق سياسي لبناني تجاه الصراع الإيراني الأميركي يطالبون متضرري الأمس بالحياد.

رابعًا: اللاحياد مع إسرائيل أصبح اليوم بديهيًّا بعدما احتلت إسرائيل لبنان، حتى بالنسبة إلى الأفرقاء الذين تعاملوا معها خلال الحرب الأهليّة.

لكن اللاحياد مع إسرائيل بالنسبة إلى بلد صغير كلبنان، طرح مشكلات إنسانيّة وأخلاقيّة على الذين يقاومون إسرائيل.

فكيف تكون لا حياديا من دون ان تصبح تابعا للذين يزودونك المال والسلاح، تاليًا كيف لا تكون أداةً بيد الصراعات الاقليمية والدولية؟

وكيف تكون لاحياديًّا تجاه إسرائيل وحياديًّا تجاه الدولة التي تتلقى منها الدعم، أي إيران، عندما يمارس نظامها القمع ضد شعبه؟

أخطر من ذلك، كيف تصبح لاحياديًّا بل متدخّلاً مع النظام ضد شعبه في سوريا؟

فكيف تراك تحافظ في هذه الحالات على المعنى الإنساني والأخلاقي للاحياد مع إسرائيل؟

خامسًا: هكذا، لم تعد المشكلة مسألة حياد او لا حياد تجاه الخارج بل مسألة تدخّل عسكري في شؤون الخارج، مما استدعى استبدال مفهوم الحياد بمفهوم النأي بالنفس، ومما أضاف المزيد من التعقيد على القضية. فمسالة التدخّل العسكري في الخارج طرحت قضية الوطن على بساط البحث: ذلك أن تدخّل طرف لبناني دون الاطراف الآخرين، شكّك في وحدة الدولة ووحدة الشعب وشرعية الحدود، وهي الأركان الثلاثة التي يقوم عليها الوطن.

سادسًا: حتى لو خرجنا من الوطن كإطار لتقييم اللاحياد، وقلنا، كما يقول محور "الممانعة"، ان ممانعة الهيمنة الأميركيّة في المنطقة تقتضي الخروج من الوطن والمواجهة على مستوى المنطقة بالوسائل كافة، فسنصطدم بإشكاليّة إنسانيّة وأخلاقيّة أيضًا. فإذا كانت اميركا تهيمن على المنطقة، فهي كانت تهيمن تحديدًا على منطقة الخليج بما فيها العراق بالإضافة الى الأردن ومصر. في حين ان النظام السوري كان هو صاحب النفوذ الأكبر في البلدان الأخرى من مثل لبنان. وإذا صحّ ان المحور الإيراني كان "ممانعًا" في العراق للهيمنة الأميركيّة، فانه اليوم يهيمن على العراق وسوريا ولبنان كما صرّح تكرارًا العديد من القيادات الإيرانية. بهذا المعنى يصحّ القول ان اميركا تقود اليوم محور الممانعة ضد الهيمنة الإيرانيّة المستجدة، في حين أن "محور الممانعة" أصبح يمثّل القوى التي تبسط هيمنتها على شعوب البلدان الثلاثة. ان القول بالحياد تجاه الهيمنة الإيرانيّة واللاحياد تجاه الهجمة المضادة الأميركية ينقصه التماسك الفكري الإنساني والأخلاقي، لا سيما ان الهيمنة الإيرانية غير مقبولة من اقسام كبيرة من شعوب البلدان الثلاثة.

يجري الصراع الاميركي الايراني تحت عنوان السلاح النووي الايراني. الهم الاميركي هو حماية امن إسرائيل من خلال إدعاء مساعدة الشعبين السوري واللبناني بـ"قانون قيصر" او بغيره. الهم الايراني هو امتلاك مصادر القوة للهيمنة الاقليمية، من خلال إدعاء الدفاع عن الشعب الفلسطيني ومواجهة إسرائيل.

سابعًا: لكن حياد لبنان لا يعني مناهضة الهيمنة الإيرانية ومساندة الهجمة المضادة الأميركية، لا سيما أن رافعي شعار حياد لبنان أكثر تسامحًا مع التدخلات الأميركية في الشأن اللبناني.

حياد لبنان في هذه اللحظة التاريخيّة هو حياد تجاه الصراع الإقليمي الدولي على أرض لبنان ورفضٌ له، أكثر مما هو موقف من الطرفين المعنيين بالصراع. فهذا الصراع يعطّل الدولة ويحاصر البلاد ماليا وإقتصاديا ويفقّر الشعب. لهذا، ومن هذا المنظور تحديدا، يبدو حياد لبنان موقفًا إنسانيًّا وأخلاقيًّا في ما يتعلّق بانعكاسه على الشعب اللبناني.

أعرف تمامًا ان لا إجماع في اوساط الشعب اللبناني على موقف الحياد لكني اعتقد ان أكثريّة الشعب تميل الى هذا الموقف. وقد عُبّر عن هذا الميل بشكل واضح خلال تظاهرات الإنتفاضة اللبنانيّة التي رفعت العلم اللبناني وردّدت رفضها "كلن يعني كلن"، بل رفضها لكل من يتبع له "كلن يعني كلن". وقد كان احتفال عيد الإستقلال تجسيدًا لهذه النزعة اللبنانيّة المستقلّة في أوساط الإنتفاضة.

ثامنًا: هناك ثلاث حجج يواجَه من خلالها طرح حياد لبنان. الحجّة الأولى هي ان رافعي هذا الطرح يريدون الحياد مع إسرائيل. لا إثبات على الإطلاق يستند اليه مقدّمو هذه الحجّة. على العكس من ذلك، يؤكد رافعو مبدأ حياد لبنان التزام لبنان قضية فلسطين وتحرير الجنوب كما تمسّكهم بالدستور اللبناني الذي يؤكّد هذا الأمر أيضا. كما ان هؤلاء يطالبون باستراتيجية دفاعية لحماية لبنان من إسرائيل او من غيرها ولا يمكن الا ان تكون المقاومة جزءا منها لكن بإدارة الدولة. التقاعس عن إقرار الاستراتيجية الدفاعية لا يأتي من رافعي شعار الحياد بل من رئيس الجمهورية و"حزب الله".

الحجّة الثانية ان البطريرك الراعي يهمّه مصير المسيحيين وموقعهم، وهذا ما يتوخاه من طرحه. إذا كانت هذه الحجّة صحيحة، لا اعتقد أن البطريرك يكون يرتكب خطأ في حق الوطن. فوجود المسيحيين أساسي في تكوين هذه البلاد كما ان الحفاظ على موقعهم في السلطة لم يعد يحمل معه إمتيازات يمكن للآخرين ان يتوجسوا منها.

أما الحجّة الثالثة والأخيرة فهي ان رفع شعار حياد لبنان كحل لأزمته الحالية، انما يراد منه رفع المسؤولية عن المتسبين الفعليين من سلطة وبنوك ومصرف مركزي. هذه الحجّة تتعامى عن حقيقة ان ما يعطّل اليوم محاسبة السلطة الناهبة والمصارف ومصرف لبنان، هي اعتبارات الصراع الإيراني الأميركي، وان الشعب اللبناني يمكنه مع حياد لبنان تجاه هذا الصراع، ان يواجه بحرية أكبر الأسباب الداخليّة لازمته.

تاسعًا: تجربة الحياد الفعليّة في الحياة السياسية اللبنانيّة هي أبان الحكم الشهابي. ومن المفيد التساؤل حول تأثير هذا الحياد على التناغم للمرة الأولى في تاريخ لبنان، بين النمو الإقتصادي والعدالة الإجتماعيّة.

عاشرًا: علّمتنا التجربة الناصريّة ان لا تناقض في ان توفّق في سعيك لحماية شعبك وقوميتك، بين اللاحياد في الصراع مع إسرائيل والاصطفاف في مجموعة "عدم الإنحياز" الدولية عندما يصبح الصراع الدولي خطرًا على وطنك وشعبك.

***

الحياد تجاه الصراع الايراني الاميركي لا يعني عدم التعامل مع الإثنين، بل يعني التعامل معهما بإستقلالية. فحياد لبنان منذ نشأته كان مرادفا لإستقلاله وانفتاحه على العالم في آن واحد. وهذه ليست معادلة ذهنية بل ترجمة لتوجهات وثقافات شعبه المتعددة. لهذا السبب تحديدا، لا يمكن اعتماد الحياد مجددا الا من خلال حوار وطني يهدف الى تجديد العقد الاجتماعي الذي انتج استقلال البلاد، ولا سيما أن الطرف الشيعي في التركيبة اللبنانية لا يعتبر انه كان طرفا فاعلا في هذا العقد الذي انتج هذا الاستقلال.

لكن الاستقلال لا يكون حقيقيا اذا لم يترافق مع استقلال إقتصادي ولو نسبي في ظل العولمة وهيمنة الدولار على النظام العالمي المالي. ولا يتحقق الاستقلال الاقتصادي النسبي الا من خلال حرية تنظيمات العمال والرأسمال الوطني وسياسة إقتصادية انتاجية من قبل الدولة. وهذا ما يجب ان يكون من المعايير الاساسية للتوجه شرقا او غربا.

طُرح حياد لبنان كشرط لوجوده منذ مئة عام. ويُطرح حياد لبنان اليوم كشرط لبقائه على قيد الحياة على مشارف مئويته الأولى.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم