الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الفقر لماذا لا يمكنه أن يولِّد ثورة في لبنان؟

المصدر: النهار
غسان صليبي
الفقر لماذا لا يمكنه أن يولِّد ثورة في لبنان؟
الفقر لماذا لا يمكنه أن يولِّد ثورة في لبنان؟
A+ A-

لا يطمح هذا النص إلى الإجابة عن السؤال الذي يطرحه العنوان بقدر ما يتوخّى مساعدة المهتمين بالتفتيش عن جواب، من خلال تقديم عشر ملاحظات حول الموضوع الذي تكمن أهميته في انه يترافق مع الكلام على "ثورة جياع" ستلي الانتفاضة المتعثرة.

أولاً: أظهرت دراسات معمّقة شملت الثورات الأكثر شهرةً في العالم، الإنكليزيّة، الفرنسيّة، الأميركيّة، والروسيّة، ان الثورات حصلت في مجتمعات كانت تشهد شيئاً من الازدهار والنمو الإقتصادي، والذين شاركوا فيها لم يكونوا من الفئات الأكثر فقرًا أو يأسًا، مع فارق بسيط بالنسبة إلى الثورة الروسية. الكثير من الأمثلة الأخرى دلّ على ان الفقر والبؤس ليسا شرطين ضروريّين أو أساسيّين للعمليّة الثوريّة، لكن دلّ ايضًا، ان الفئات الأكثر فقرًا ليست بالضرورة خارج العمليّة الثوريّة.

ثانياً: في أوائل الثورة الصناعيّة افتُرض ان الفئات العمّاليّة الكادحة التي سمّيت بالبروليتاريا، بسبب الحرمان الذي كانت تعانيه، ستكون في طليعة الذين سينتفضون على النظام الرأسمالي ويغيّرونه. تبيّن مع الوقت وبالممارسة، ان الشعور بالحرمان والبؤس يمكن ان يؤدّي الى رفض العمل لمدة قصيرة أو الى أعمال شغب، لكن هذه الأعمال لم تكن قادرة على تطوير مشروع نقيض للواقع القائم ولا على انتاج استراتيجيا.

اعتبرت الماركسيّة اللينينيّة ان البروليتاريا لا يمكنها ان تكتسب وعيًا ثوريًّا اشتراكيًّا إلاّ من خارجها، أي من طريق حزب ثوري اشتراكي.

في الأوساط العمّاليّة، لوحظ ان العمّال غير المؤهلين الذين يؤدون أعمالاً بسيطة على آلاتهم، هم أقل إنخراطاً في العمل النقابي، مقارنة بالعمّال المؤهلين وفي مواقع أكثر إستراتيجية في عمليّة الإنتاج.

ثالثاً: بالنسبة إلى العمالة الهشّة، بدوام جزئي وبدون ضمانات اجتماعية، التي تكثر في القطاع غير الرسمي، والتي من المتوقّع ان تنتشر كثيرًا في لبنان ولا سيما ان هذه العمالة كانت ما قبل الانهيار تشكّل نحو 65%، لوحظت عالميًّا الاتجاهات الآتية:

- هذه العمالة غير منظمة نقابيًّا ويصعب تنظيمها بسبب صغر حجم المؤسسات التي تعمل فيها وبسبب كونها تحت رحمة صاحب العمل الذي يستطيع صرفها بسهولة.

- النقابات العمّاليّة لا تهتم فعليًّا لهذه العمالة بل تركّز عملها على العمالة الثابتة ذات العقود غير المحدّدة التي تستفيد من ضمانات إجتماعيّة.

- الاتجاهات السياسيّة لهذه العمالة متعدّدة، فبعضها يذهب يسارًا، كما في اليونان مع حزب سيريزا، أو يمكن ان يذهب يمينًا في اتجاه الاحزاب اليمينيّة العنصريّة التي تحمّل العمالة المهاجرة مسؤولية الوضع الذي وصلت اليه العمالة الهشّة، وهذا ما نلحظه في اميركا وأوروبا.

رابعًا: في منطقتنا العربيّة تمكّنت التيارات الإسلاميّة الأصوليّة من استقطاب الفئات الفقيرة والمهمشة. وفي لبنان اضطلعت الاحزاب المذهبيّة، ولا تزال، بدور في هذا المجال، مستخدمة خزينة الدولة أو المساعدات التي تأتيها من بلدان خارجيّة تتبع لها، لاستقطاب الفقراء عبر تأمين مساعدات لهم.

خامساً: ينتقل الحديث في لبنان سريعًا من الكلام على الفقر الى الكلام على الجوع وتصبح المسألة مقتصرة على ضرورة تأمين الغذاء مع تناسٍ لشروط العيش الأخرى، من سكن وصحة وتعليم وخدمات عامة.

ما قلناه عن الفقر ينطبق أكثر على الجوع الذي لم تنتج منه في العالم حركات ثوريّة أو تغييريّة.

فالجوع لا يدفعك الى الثورة بقدر ما يدفعك الى الاستماتة لإيجاد الغذاء. ومع إنخفاض نسبة الغلوكوز (Glucose) نتيجة النقص في الغذاء، يضعف الجسد وتبدأ أوجاع المعدة وتنخفض الطاقة البشريّة، مما يصيب العقل أيضًا الذي ينفق 20% من هذه الطاقة. كما يترافق ذلك مع حالات إكتئاب.

سادساً: ربما هي المرّة الأولى في تاريخ لبنان المعاصر التي تصبح فيها قضية إجتماعيّة عنوانًا سياسيًّا أوّل. لا غرابة في ذلك، فنسبة الفقراء بدأت تقترب من الستين في المئة من مجمل الشعب، في سياق إنهيار مالي إقتصادي لا رادع له، مما يرشّح النسبة الى الارتفاع أكثر فأكثر.

سابعاً: أسباب الفقر الحالي في لبنان تتجاوز الأسباب التقليديّة، من مثل التوزيع غير العادل للأجر والنموذج الاقتصادي والحروب والكوارث الطبيعيّة وغيرها.

فإذا كان النموذج الإقتصادي، بالسياسات الحكوميّة المرافقة له، الذي كان ولا يزال سائدًا يتحمّل مسؤوليّة 35% من نسبة الفقر (وهي النسبة التي كانت متداولة قبل مرحلة الإنهيار) فإن عوامل ثلاثة أخرى طغت على المشهد وأصبحت صاحبة التأثير الأكبر: نهب رجال السلطة والمصارف والمصرف المركزي لخزينة الدولة ومدخرات المواطنين، فيروس كورونا، الصراع الإيراني - الأميركي والحصار المفروض على لبنان.

إن طغيان العوامل الثلاثة الأخيرة يجعل مسألة مواجهة الفقر بوجهيها الإقتصادي والسياسي، أكثر تعقيدًا وصعوبة من كل المواجهات التقليديّة المعتمدة عادة.

ثامناً: يجري التمييز بين ثلاث وضعيات من الفقر: البلدان الفقيرة التي ينتشر فيها الفقر، البلدان المزدهرة التي توجد فيها فئة هامشية فقيرة، والبلدان ما بعد الصناعيّة التي تواجه صعوبات إقتصاديّة تنتج منها بطالة.

إذا لم يكن الوضع في لبنان يشبه في الماضي أيًّا من الحالات الثلاث، إلاّ انه اليوم أقرب الى الحالة الأولى التي أصبح فيها الفقر من خصائص البلاد الرئيسية. وهذا لا يتطلب معالجات خاصة بقدر ما يحتاج الى معالجات عامة تطال الوضع ككل.

تاسعاً: هناك ثلاثة نماذج تستخدم غالباً لمواجهة الفقر: الإغاثة (وبحسب المثل المعروف يعني ذلك ان تؤمّن السمكة للفقراء ليأكلوا). التأهيل (وبحسب المثل نفسه ان تعلّم الفقراء كيف يصطادون السمك بدل إعطائهم سمكة). وأخيرًا التغيير البنيوي (أي تغيير شروط الصيد بحد ذاتها، من علاقات العمل والتقنيات المستخدمة والقوانين الراعية، الخ...).

في هذه المرحلة نحن أقرب في لبنان الى النموذجين الأول والثاني مع أفضليّة للأول. فيما يتراجع الثاني وتتضاءل فرص الثالث.

عاشرًا: إن أي محاولة للتصدّي للفقر أو للجوع في لبنان تفترض التسليم بالأمور الآتية:

- ليس هناك من مشكلة فقر في لبنان بل البلد هو الذي أصبح فقيرًا.

- أسباب الفقر الى جانب الأسباب التقليديّة، تتلخّص بسلطة موجودة نهبت شعبها، وبصراع إيراني - أميركي يحاصر البلاد، وبفيروس كورونا.

- مواجهة كورونا تكون بتفعيل الاجراءات الحكوميّة ومراقبة تطبيقها والتزام الشعب مستلزماتها. امّا مواجهة نهب السلطة والحصار الإقليمي الدولي، فتتطلّب موقفًا وطنيًّا يطوّر ما وصلت اليه الإنتفاضة قبل ان تتعثّر. مع الإشارة الضروريّة إلى ان التصدّي لنهب السلطة هو أسير الصراع الإقليمي الدولي، لذلك لا يمكن الا ان تجري مواجهتهما معًا.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم