الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أزمة القضاء: ما بين الهيمنة والاستقلال

الدكتور علي خشان- وزير العدل الفلسطيني الأسبق
أزمة القضاء: ما بين الهيمنة والاستقلال
أزمة القضاء: ما بين الهيمنة والاستقلال
A+ A-

شغلت قضية استقلال القضاء وما زالت الفقهاء والمفكرين والمشرعين والأكاديميين ورجال السياسة والفلاسفة والقانونيين الذين تفتقت قرائحهم بحلول إبداعية تؤكد على الاستقلال وتبين أهميته للمواطن والمجتمع والدولة، وأضحى استقلال القضاء بذلك جزءاً من الضمير الإنساني ومبدأ من المبادئ السامية التي لا تتحقق العدالة بدونه ولا يجوز الخروج عنه أو إنكاره.

وعند التطبيق العملي لمبدأ استقلال القضاء تثور إشكاليات تقض مضاجع القضاة والعاملين في قطاع العدالة، حيث لا ينظر الى القضاء كسلطة مستقلة من سلطات الدولة الثلاث كما تنص على ذلك الدساتير والقوانين التي تعنى بالشأن القضائي وإنما يتم النظر للقضاء باعتباره وظيفة رسمية من وظائف الحكومة، تتحكم به السلطة التنفيذية مثلما تشاء وكيفما تريد وترغب، إما تنفيذاً لرغبة سياسي أو عملاً باستشارة قانوني أو نزولاً على طلب جهاز حكومي أو أمني.

وتأسيساً على ما تقدم وانطلاقاً منه تهتم الدول المتقدمة بحسن اختيار سدنة العدالة وحراسها من القضاة بشفافية مطلقة بعيداً من المحاصصة المقيتة والانتماءات السياسية أو العقائدية أو اعتماداً على الواسطة والمحسوبية حتى لا يتأثر ميزان العدالة، وليبقى محراب العدالة طاهراً غير مدنس.

ويفترض الاستقلال أن يكون القضاة مستقلين في أحكامهم وإرادتهم تحكمهم ضمائرهم والقانون واجب التطبيق، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم، أو سطوة حاكم، بعيدين كل البعد من أي تدخل سياسي أو مالي أو اجتماعي أو وظيفي، لا يخيفهم وعيد أو ترهيب ولا يثنيهم عن رأيهم وعد ولا ترغيب.

إن أزمة العدالة تكمن في التدخلات غير المبررة في شؤونها من القائمين عليها أولاً قبل أن نتكلم عن السلطات الاخرى وإن من أهم مقومات حسن سير وتنظيم القضاء ونزاهته وحيادته تكمن في استقلاله وعدم التدخل في شؤونه، حتى من المحسوبين عليه بدون وجه حق، فلم يكن القضاء ولا يجوز له أن يكون ساحة لتصفية الحسابات الشخصية والفئوية والسياسية أو تلك الحسابات مجتمعة.

إذا كان العدل أساس الملك فإن استقلال القضاء هو أس العدالة وبوصلتها ومرشدها، ولن نستطيع تلمس الطريق بدونها، ولا يكفي النص في الدستور والقانون على استقلال القضاء، بل يجب أن يكون هذا الاستقلال واقعاً، بوضع ضمانات تكفله وتحميه من التدخلات المباشرة وغير المباشرة ولهذا لا يعد استقلال القاضي امتيازاً له بل ركن هام يضمن تحقيق العدالة ويجسد مبدأ سيادة القانون.

ويعد مبدأ عدم قابلية القضاة للعزل من أهم الضمانات التي تنص عليها الدساتير والذي يضمن استقلال القاضي والقضاء، فالقاضي الذي يخاف العزل يضل بلا محالة طريق الحق والعدل.

والقاضي غير الآمن على مستقبله لن يكون قادراً على إعمال الفكر واستنباط الأحكام والنطق بالحكم بثقة وأريحية، وإن لم يكن القضاة قادرين على ضمان استقلالهم، فكيف يطمئن الناس إلى حقوقهم وحرياتهم إن لم تكن منوطة بأشخاص لا يملكون مصائرهم ويتحكم بهم غيرهم.

إن القوانين التي تجعل عزل القضاة بيد زملائهم باستخدام شعارات الإصلاح وتحت ستار الحصانة وفي إطار من الضمانات المزيفة قوانين تنقصها الشرعية ومجرد شعارات جوفاء خالية من المضمون.

إن المحنة الحقيقية التي أصابت القضاء في بلادنا هي استخدام القوانين والقرارات بقوانين من أجل عزل القضاة من دون توفير أي ضمانات حقيقية للقاضي، فيجب أن يبقى القاضي على رأس وظيفته حتى بلوغه السن القانونية التي ينص عليها القانون، وأن لا يكون القاضي عرضة للعزل إلا لدواعي عدم القدرة أو عدم اللياقة لتولي مهامه، وفي النهاية يجب أن تكون إجراءات الايقاف أو العزل أو الندب وفقاً للمعايير الدولية المعمول بها ومدونة السلوك القضائي، ولا يجوز بأي حال من الأحوال التخلص من القضاة تحت ستار القانون، وفقاً لاجراءات يشوبها التحكم وعدم الانضباط باستخدام طرق غير دستورية وغير قانونية تقوم على الشبهات، فإن كان هناك متهم بالفساد و/أو عدم الكفاءة فيجب التصرف معه وفقاً للقانون والاجراءات القانونية والتأديبية بلا وجل أو استحياء، بدلاً من إثقال كاهل الرئيس أو نواب الشعب والسلطة التشريعية بإصدار قرار تلو قرار وقانون بعد قانون لأننا لا نستطيع المواجهة ولا نملك الحلول، فالقضاء في نهاية المطاف ليس مؤسسة سياسية يمكن التعامل معها بمنطق الهتاف والحشد أو تحقيق المصالح.

وغالباً ما ترفع السلطة التنفيذية شعار إصلاح القضاء، أو تطهيره، كأهداف تريد تحقيقها، انطلاقًا من الاعتقاد بأن القضاء كان معوقًا للعمل وهو السبب في الاختناق القضائي وعدم تحقيق العدالة الناجزة نتيجة للبطء في نظر القضايا، أو أنه يشكل عقبة في طريق إقامة المؤسسات الدستورية، ومن أن القضاء يحتاج إلى إصلاح نتيجة الإخفاقات القضائية المتتالية.

ومع إيماننا بأهمية الاصلاح الذي يعالج مواطن الفساد ومواضع الخلل المتعددة في بنيته، وصولاً إلى تبني قواعد واضحة وعادلة للتعيين في المناصب القضائية، ورفع مستوى الكفاءة الفنية للقضاة؛ فلا يجوز أن يكون الإصلاح القضائي مجرد شعار للمس باستقلال القضاء وعزل القضاة بطريقة غير قانونية، كما لا يجوز ليّ القوانين وتطويعها وإعادة تشكيل الهيئات وإعادة تنظيمها بحيث نصل بمصطلح الإصلاح الى حد تغوّل السلطة لأن هذا سيؤدي إلى هدم أسس الشرعية والافتئات على الدستور ويخرج الأمور عن السيطرة ويصبح الأمر فوضى لا عاصم لها ولا منجاة منها.

ولا بقاء للمجتمع إن طال الظلم سدنة العدالة وحراسها من قضاة وقانونيين وويل لأمة لا يحترم قضاتها ولا يملكون إرادتهم ويتحكم بهم غيرهم فالعدل أساس الملك ولا عدالة دون استقلال القضاة والقضاء.

ولا يستقيم الحديث عن استقلال القضاء من دون الحديث عن الازمة في هذا القطاع الهام وأطراف الأزمة واللاعبين الأساسيين فيها، مثل جمعية القضاة والتي تعد بمثابة نقابة للقضاة، للدفاع عن مصالحهم والذود عن استقلالية القضاء، ونقابة المحامين والنيابة العامة وآخرين سنتطرق لهم تباعا.

ورغم أهمية استقلال القضاء التي أكدنا عليها مراراً، الا أن ذلك لا ينفي أن ما يزيد من حدة الأزمة أن القضاء يتعامل مع الشأن القضائي بمنطق المالك والمتصرف الأوحد في الشؤون الخاصة به، وهو ما يجعل القضاء يتعامل بحساسية مفرطة ويشكك في أية خطوة يتم القيام بها في قطاع العدالة ويعتقد أنها تدخل في الشأن أو العمل القضائي وخاصة إن صدرت من جانب وزير العدل، مع أن الأصل أن تقوم العلاقة بينهما على التعاون وفقاً للدستور والقوانين ذات العلاقة، وبما من شأنه تعزيز استقلال القضاء، في حين أنهم لا يحركون ساكناً أمام التدخلات غير الدستورية التي تصدر من آخرين.

ومن الأجدر أن تكون بين القضاء ووزارة العدل علاقة تكاملية وبما يخدم قطاع العدالة، وما ينطبق على العلاقة بين قطاع العدالة والقضاء نجده في العلاقة بين القضاء والنيابة العامة حيث يجب أن ترتفع العلاقة في ما بينهما الى ما هو أسمى وأن تقوم على احترام عضو النيابة وأن يمنح الامتيازات عينها الممنوحة للقضاة.

ومن أهم الأمور التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار هي العلاقة في ما بين القضاء الجالس والقضاء الواقف التي يجب أن تقوم على الثقة المتبادلة والاحترام، فالقاضي يحمل أمانة القضاء وهو ليس حاكماً بأمره وعليه احترام القوانين ومدونة السلوك القضائي، والمحامون هم حملة مشاعل الحق والعدالة والقضاء والمحاماة جناحا العدالة، ولن تحلق العدالة بعيداً بغياب أو امتهان أحدهما للاخر.

وعلى الجميع الارتقاء الى مستوى المسؤولية والعمل بروح الفريق الواحد مع ضرورة الالتزام بالقانون والتحلي بالفكر المؤسساتي، إن تكريس مبدأ التعاون بين جميع العاملين في قطاع العدالة من القضاء ووزارة العدل والنيابة العامة والمحامين وأساتذة الجامعات وممثلين عن المستشارين القانونيين وعن جمعية القضاة والمعهد القضائي وغيرهم يجب أن يكون من أولى الاهتمامات لما في ذلك من أهمية في النهوض بقطاع العدالة وبما يتفق مع أحكام القانون وبما يضمن الاحترام المتبادل بين الأطراف والتصدي الفوري لحل أية مشكلة تقع بروح إيجابية، وإعداد المقترحات لتفعيل وتكريس مبدأ التعاون وتجاوز السلبيات التي تعترض سبيل تحقيق العدالة.

إن نقابة المحامين هي تنظيم اجتماعي ومهني لها كل الاحترام والاعتبار، وجمعية القضاة ليست بجسم خارج عن القانون والمجتمع، احترامها واجب والتعاون معها حق، ووزارة العدل ليست خصماً أو منافساً لأحد بل هي ميسر لعمل القضاة وأعضاء النيابة والمحامين والقانونيين والحقوقيين ومن واجبها الدفاع عن الجميع في جلسات الحكومة.

كما لا يجوز أن يتعامل أقطاب العدالة كخصوم فالذي يجمعهم أكبر من الخصومة، بالتعاون تبحر سفينة العدالة في بحر سيادة القانون وبلغة المحبة ستنجو، أما الكره والتنازع والخصام فلن يوصل أحد شاطىء السلامة والأمان، وإن غرقت سفينة العدالة سيغرق معها الجميع.

إن العاملين في قطاع العدالة من قضاة وأعضاء نيابة ومحامين وأساتذة قانون ومستشارين قانونيين هم ضمير الأمة، استودعهم الله سبحانه وتعالى أمانة مقدسة تلهج بها ألسنتهم بالعدل وتنطق بالحق، ومحراب العدالة هو ملاذ جميع المظلومين والمستضعفين وحصن الحقوق والحريات، والعدالة من مقدسات الأمم ومقومات تراثها وحضارتها ولا يجوز أن نسمح باستمرار أزمتها وتفاقمها.

[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم