الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أنتَ تُؤخذ بالعقل يا لبنان لا بالرعاع والأفّاكين

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
أنتَ تُؤخذ بالعقل يا لبنان لا بالرعاع والأفّاكين
أنتَ تُؤخذ بالعقل يا لبنان لا بالرعاع والأفّاكين
A+ A-

في الأمس، نزل على الأرض، تجّارُ اللحم الحيّ، باعةُ الرقيق الأبيض، مصّاصو الدماء، ديدانُ الأرض، غربانُ القفر والسماء، السماسرةُ، الرعاعُ، البلطجيّةُ، المرتزقةُ، قطّاعُ الطرق، الجواسيسُ، القتلةُ، ليقولوا للقريب وللبعيد: نحن أولياء الأمر في لبنان، ولسنا الأوادم، ولا الفقراء، ولا الحكماء، ولا المظلومين، ولا المنتفضين، ولا الثوّار، ولا الأحرار، ولا الثوريّين.

في الأمس، في ليل بيروت، كما في ليل طرابلس، ضاقت الوجوه بالأقنعة، مثلما ضاقت الأقنعة بالوجوه.

في الأمس، ذاب الثلج وبان المرج، وظهر كلّ شيءٍ، وكلّ أحدٍ، على حقيقته الناصعة العار.

أمس، أُخِذ العلمُ بأنّ هؤلاء هم – بفائص ركوع الحكومة والسلطة واندثار "العهد القويّ" من جهة، وبفائض البلطجة والقوّة الإرهابيّة العنفيّة من جهةٍ ثانية - أسيادُ لبنان ورعاتُهُ.

أمس، أُخِذ العلم بأنّ هؤلاء هم "عيشُ لبنان المشترك"، وهم عهودُهُ، وهم حكوماتُهُ، وهم نهاراتُهُ، وهم كوابيسُهُ، وهم لياليه المؤرقة، وهم غدُهُ القياميُّ غير المشرق.

إنّه أمس اليوم، الذي يمهّد للغد، تمهيدًا أبوكاليبتيًّا، مبرمَجًا، لكنْ فالتًا من عقاله، مفتوحًا على آخره، مستبقًا كلّ فرملةٍ محتملة، على انهياراتٍ متلاحقةٍ، متزاحمةٍ، متشلّقةٍ، وأعمال فوضى عارمةٍ، عرمرميّةٍ، وأفلام رعبٍ قياميّة، ومجاعاتٍ، ستكون – في خططهم المريضة - بمثابة احتفاء كرنفاليٍّ وهستيريٍّ بانتهاء "دولة لبنان الكبير".

كلّ ما يجري على الأرض "يبشّر" بذلك.

لكأنّه لم يطلع فجرٌ على لبنان، إلّا كانوا هم نُذُرَ هذا الفجر.

لكانّها ما غابت شمسٌ عن لبنان، إلّا كانوا هم هذه الشمس التي تغيب، لتشرق في صباح اليوم التالي، حاملةً معها النُّذُرَ المدلهمّةَ إيّاها.

لكأنّ كلّ الذين نادوا باسمه، وتحلّقوا حوله، وشربوا من مائه، لكأنّهم رمَوا حجرًا في بئره، تنكّرًا له، ليتركوه وحيدًا في ليلته الظلماء.

لكأنّ لبنان، الذي لا شبيهَ له، ولا صنوَ، بات يتيم الدهر؛ لا أبا له، ولا أمٌّ، ولا شقيقةٌ، ولا شقيقٌ، ولا خؤولةٌ، ولا عمومةٌ. كانّ ليس ثمّة، هنا، وفي مشرق الأرض ومغاربها، مَن يعترف به، ابنًا أصيلًا، عزيزًا، كريمًا، شريفًا، سيّدًا، حرًّا، مستقلًّا، أو يُقِرّ بصلة قرابةٍ معه.

ما من لعنةٍ يُلعَن بها كائنٌ، أو أرضٌ، أو بلادٌ، أو ضوءٌ، أرهب من هذه اللعنة.

فأيّ لعنةٍ هي هذه، يا لبنان، ولماذا؟! لماذا؟!

كمقطوعٍ من شجرةٍ، بِتَّ يا لبنان، مرميًّا على قارعة الدهر، لتكون بصقة عارٍ، أو حذاءً في أرجل المندوبين والأوصياء والمسترجلين.

ليتكَ، يا لبنان، لم تكنْ، لترى، الآن، ما أنتَ مقيمٌ عليه، وما أنتَ صائرٌ إليه، غدًا، وبعد غدٍ، على أيدي هؤلاء، وأولادهم، وأحفادهم، وورثتهم، ومراياهم. ما أوسخَ مراياهم!

وأنا، ليتني لم أكنْ لأشهد. ليتني، يا لبنان، لم أعِشْ لأشهد.

لو كان ثمّة صورةٌ للبهاء الأرضيّ، في الخيال، أو في الافتراض، لكنتَ أنتَ جسد الصورة.

أجمل منكَ لا. لكنّ هؤلاء لا يستحقّون أنْ يحلّوا ربطة حذائكَ.

هؤلاء هم "عيشكَ المشترك". وهم مُصادِروكَ. وهم مقتسمو ثوبكَ. وهم المتاجرون بكَ. وهؤلاء هم بائعوكَ. وكم هم خَوَنَتُكَ، يا لبنان.

لقد سمّيتُهُم، قبل أيّام، بالأسماء كلّها، ووصفتُهم، كلٌّ بوصفه.

لكنّكَ - أنتَ - لستَهم. ولن تكون لهم.

لن تكون لهم.

لَأفضل مليون مليون مرّة أنْ لا تكون موجودًا البتّة، على أنْ تكون "ملكًا" لأحد هؤلاء. أو على صورة هؤلاء.

أكاد أقول: لا بصيص أملٍ بعد اليوم.

لكنّي لن أقول. لن أقول.

سأظلّ أحلم بأنّ ما من قوّةٍ في الأرض، مهما بَغَتْ، وتجبّرتْ، وتسلبطتْ، سيكون في مقدورها أنْ تستولي عليكَ.

سأظلّ أحلم بأنّك لا يُستولى عليك بجيوشٍ. ولا بأسلحةٍ. ولا بسلاطين. ولا بأممٍ. ولا بأولياء. ولا بعروشٍ. ولا بآلهة.

فأنتَ تؤخذ بالحقّ والقانون والحرّيّة والأنسنة والمواطنة، يا لبنان.

وأنتَ تؤخذ فقط بالعقل. وهذه مهمّة العقلاء!

وإذا كان ثمّة مقالٌ "تاريخيٌّ" ليُكتَب، أو ليُفكَّر فيه، فليكن هذا المقال: ما هي مهمّة العقلاء؟!

[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم