السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

"كلفة العيش المشترك" للأب يوحنا الحلو: طوق نجاة من لعنة شعب ووطن

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
"كلفة العيش المشترك" للأب يوحنا الحلو: طوق نجاة من لعنة شعب ووطن
"كلفة العيش المشترك" للأب يوحنا الحلو: طوق نجاة من لعنة شعب ووطن
A+ A-

غمس الأب يوحنا الحلو في حبر الحقيقة يراعه، فصدر من صوته كلامٌ شجيٌّ، رافعًا عقيرته إلى روح أبيّة، قبل أن تنسكب على الأوراق وتتحول أصواتًا تصدح محبة، عبر طرقات مشاها في حياته مليئة بالعقبات ومفروشة بالأشواك. فكانت حصيلتها مذكرات مجموعة في كتاب "كلفة العيش المشترك" الصادر حديثًا عن "دار سائر المشرق" للنشر.

أربعماية وأربع عشرة صفحة، حوت أحد وعشرين فصلًا من مراحل جلجلة الوطن وأبرشية صيدا المارونية، التي عُيّن نائبًا عامًا عليها عام 1975 أي بداية الحرب اللبنانية الأليمة. فكان خير حامل لرسالة السيد المسيح، التي ألقاها على عاتقه محيطُه المعذَّب وضميرُه الصافي وموقعه بحكم مسؤوليته. أرّخ الأحداث بطريقة أدبية راقية، اِمتشقت الواقع والحقيقة واتّحدت بهما بعيدًا من المحاباة، مما جعله في أغلب الأحيان وحيث استطاع يستدرك حوادث عديدة. داعيًا مع الواعين من جميع الطوائف، رجال دين وعلمانيين، إلى شيء من الأمل، رافعين الصوت من جميع الجهات إدانة لتلك المعارك وشجبها، والتنكّر لما يجري باسم الدين. متمسِّكين بالوعي، مترجمين كلمة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني قبل النطق بها بعقود: "إن لبنان ليس وطنَا وحسب بل هو رسالة إلى العالم أجمع".

فصول الكتاب الأولى، تصف بداية حياته الدراسية والكهنوتية. يتوغل القارىء شغفًا بالقراءة السلسة، فيجد الحقائق الدامغة، من رجل عايش جميع السياسيين، خلال تاريخ لبنان الحديث مذ سيم كاهنًا العام الواحد والخمسين من القرن العشرين. الفصل الثالث وصف أحداث عام ثمانية وخمسين وصفًا مسهبًا، وعرض تأثيرها السلبي والإيجابي في أبرشية صيدا المارونية، وموقف المطرانية من تلك الأحداث: "رفضنا العنف أيًا يكن مصدره وبالطبع كان لذلك الموقف ارتياح في صفوف المسلمين وانقباض في صفوف المسيحيين المتهّورين". أمّا في الفصل الرابع، فقد انهالت التدوينات الواضحة وضوح الشمس التي وصفت بداية الأحداث اللبنانية. وتطرقت إلى الحادثة الأليمة التي حصلت بتاريخ السابع عشر من آذار عام سبعة وسبعين، يوم اغتيال الأستاذ كمال جنبلاط. وتداعياتها السلبية على الأبرشية التي تضم رعايا الشوف من ضمن رعاياها، فكان عنوان الفصل "السقوط الكبير".

"الهجوم الإسرائيلي على لبنان" عنوان لفصل خامس من الكتاب، عرض خلاله الكاتب بطريقة عقلانية وواقعية معهودة بتدويناته، التجاذب الإسرائيلي الفلسطيني على أرض لبنان، متأسفًا على الضحايا البريئة من جميع الأطراف، متحسرًا على مصير الدولة والوطن: "أين نحن من لعبة الدول؟ أين نحن من لعبة الكبار؟ يبدو أننا لا نزال قاصرين وغيرنا هو الذي يحكمنا ويسيّرنا خدمة لمصالحه، وإن تظاهر الكثيرون بالحبّ لنا والعطف علينا تظل مصالحهم في الدرجة الأولى". الطامة الكبرى أتت سادسًا في فصل بعنوان "التهجير من الجبل". للمصداقية في كتابة هذه المطالعة نرود ما وجاء في مطلع هذا الفصل: "وأمّا من بقي من المسيحيين في بيته أو في رعيّته أو اختبأ في كنيسة فقد قضي عليه. هكذا تم الإتفاق بمعزل عن إرادة أولئك الأبرياء الذين ولدوا في تلك القرى وعاشوا في تلك الرعايا واشتغلوا الأرض واستنبتوها لهم رزقًا حلالًا بدمّ قلوبهم وعرق جباههم".

وتكرُّ الفصول تباعًا، حاملة معها المآسي النابعة من الحقد، الذي لم تنفع معه روحية رجال الدين المتآلفة على الخير الداعية للوئام، حبًا بالعيش المشترك وحفاظًا على المحبة والسلام، والتي هي فحوى جميع الكتب السماوية. فقد وضع الكاتب اللوم على السياسيين بمعزل عن مواقف رجال الدين: " وكم كنّا نتمنى لو أن الحكّام المدنيين يرجعون إلى ذواتهم ويحكّمون ضمائرهم للعمل على إيقاف نيران الحرب، التي تأكل الأخضر واليابس، والألوف من الناس الذين عن حق أو بطل، عن جهل أو معرفة كانوا وقودًا لها".

فصول من كتاب وصفت آلام صيدا عام خمسة وثمانين من القرن المنصرم، تهجير القرى المسيحية وإفراغها من ساكنيها ساحلًا وجبلًا، تداعيات ممارسات الميليشيات المسيحية في الأبرشية وخاصة بعد انسحابها المفاجىء، حصارها في دير القمر، البعثات البابوية لتفقد "القطيع الصغير". وصولًا إلى الصدام الدامي بين أمل وحزب الله ومن ثم الصدام الفلسطيني وحركة أمل. كما وردت الأسرار الكامنة وراء تعيين المطران إبراهيم الحلو مدبرًا رسوليًا على الكنيسة المارونية نهاية عهد غبطة البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش. أسهب المؤرخ في عرض نتائج الحرب على الأبرشية ناشرًا النصح الحميد خلال السطور لتدارك أحداث مستقبلية: "...لأن إيماني بالعيش المشترك يتطلب من العاملين به المحافظين عليه تضحيات جلّى لا بدّ منها ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًأ".

خصّص الأب الحلو في مذكراته المجموعة في هذا الكتاب، نحو نصف الفصول، لعملية عودة المهجّرين. اعتبارًا من تبلور فكرة العودة إلى الترجمة النهائية لهذه الفكرة، متوّجة بزيارة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير التاريخية إلى الشوف وجزين. كما ضمّت هذه الفصول عرضًا مسهبًا للمسيرة التربوية خلال الأحداث الأليمة انحطاطًا وازدهارًا، معدِّدًا المدارس التي تهدّمت وأقفلت، والتي رمِّمت وشُيِّدت وتلك التي عادت لممارسة رسالتها التعليمية بعد انحسار الحرب وعودة المهجّرين.

حوى الكتاب كمًّا هائلًا من الأسرار المتعلّقة بالتفجيرات في مختلف مناطق الأبرشية، والاغتيالات السياسية قبل وبعد كل دعوة للمصالحة بغية إجهاضها. كما كان السرد غنيًا بمواقف شخصيات عديدة، مدنية ودينية وعسكرية، من بعض الأحداث محاولين غسل أيديهم منها. ومواقف أخرى تُشدِّد على العيش المشترك والمحبة والسلام، في عدّة مناسبات افتُتحت فيها صروح دينية وثقافية، لا سيّما تلك المتخصصة بالمساعدات الإنسانية ككاريتاس لبنان.

معظم الروائيين اللبنانيين، كتبوا عن الحرب اللبنانية بعيدًا نوعًا ما من تداعياتها السياسية. أسهبوا في وصف الأحداث وتفنّنوا في حبك رواياتهم امتلاكًا لشغف القارئ في كشف أسرار نهاياتها. فوصفت الأديبة مارلين سعاده، حقيقة وطن موجوع في روايتها (خيّ جيديوس) وجعلت القارئ يغوص في النصوص، لأنّ جحيم الرواية طغى على كل سطر بوصف رائع. اختلطت رفاهية الأدب بثقافة الحرب لتولد رواية (حصاد الشوك) للدكتور إميل منذر، صارخة متألمة في فضاء التهجير القسري. خربش الروائي سامي معروف بحبره عذرية الوطن، برسومات ممارسات الميليشيات، على دروب الانتحار اليومي وشغف الهاوية، عبر روايته (الفن الأسود). امتشقت الأديبة ماري قصيفي سيف الحقيقة الجارح، فكانت صرخات مؤلمة من واقع حقيقي، وصفت رحيل من لا يملك ثمنًا للرحيل، حين زالت الكروم بسقوط الجبل، بكل ما يعنيه من حلاوة دبس وخمر مقدّس في روايتها (للجبل عندنا خمسة فصول). أمّا هذا الكتاب (كلفة العيش المشترك) للأب يوحنا الحلو، فقد مزج الفكر الروائي مع واقعية الصحافي الملتزم الحقيقة بناسوت الكاهن التقي. مؤرخًا بأمانة انفلاش العنف والرعب الدامي على رقعة من جغرافية الوطن المعذّب. كاتب حاول أن يُحييَ لقمة العيش وحلاوة الاستقرار في ربوع القرى كتابة وفعلًا. كنس أرض الوطن من شوائب الزمن، رمم روح العيش المشترك من كل جهل وتعب. سار في وحشة الدروب أمام العائدين وسط السراب. لم يستبدل خطايا التهجير بطهارة التراب. فابتسمت له القرى العائدة من زبد الموج الأبيض إلى أعالى جبل أرز الباروك الشامخ. عاملة بنصائحه النابعة من جهد الاستمرار للاستقرار. كي تستكين في وهاد الجبل صلاة وإيمانًا، دون الدخول مع الشياطين بنشوة الرقص عند كل عاصفة.

من يجيب على السؤال الذي طرحه الكاتب عن زعماء رحل بعضهم وما زال بعضهم الآخر مستمرًا وفق نهج ذئب (لافونتين) الذي عكّر مياه الجدول لجوع مزمن ساكن بكيانه طمعًا بلحم الحمل الوديع؟: "أين هم الزعماء الّذين كانوا يديرون شؤون الحرب والقتال. والذي بقي حيًّا منهم، ها هو الآن، يتباكى ويدقّ صدره حسرة وندامة على سياسة اتّبعها ويحالف اليوم عدوّ الأمس... ولم ذاك الجهل؟ ولم التحسر على خسارة في الأرواح والممتلكات؟ أليست المسؤولية جسيمة عليهم أمام الله والناس والتاريخ؟". 

ألهذا الحدّ كلفة العيش المشترك باهظة الثمن أرواحًا وممتلكات؟ أهكذا تستمر الحياة مفطورة على نداء الدمّ، محولًا العبث إلى طوق نجاة من لعنة الشعب والوطن؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم