الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

شعرٌ أو لا شعر وسط الفوضى المتربِّصة

المصدر: "النهار"
يحيى عبد العظيم
شعرٌ أو لا شعر وسط الفوضى المتربِّصة
شعرٌ أو لا شعر وسط الفوضى المتربِّصة
A+ A-

لم تندحر القصيدة العربية قط، ولم ولن تموت أبداً. إذ بين وقت ووقت تخرج عن طورها الحقيقي الأصيل، ثم لا تلبث أن تعود إليه في كامل بهائها، وقمة زينتها وأصالتها. ظهرت الموشحات جميلة رائعة كبيئتها وطبيعة مكانها، واستمرت قروناً بعد ذلك إلى أن انقرضت، فلا يكتبها الآن إلا قليل من الشعراء؛ منهم كاتب هذه السطور.

وما لبث الشعر في القرن الماضي أن اتخذ أشكالاً أخرى في ثوب مقطعات متعددة القوافي، لكنه التجديد الذي يسير جنبا إلى جنب مع احترام الموروث، ثم كانت التفعيلة بما فيها من تجديدات في الصور والمعاني؛ إلى أن أغرقت في الغموض حتى على قائليها، فكان ما كان من قطيعة بين الشعر والمتلقين فقد أصبح كل منهما في واد غير وادي الشعر والإبداع، وازداد الأمر سوءًا بدعوة كثير من الجهال إلى القطيعة بين الحاضر والماضي، بين الحاضر المولي وجهه قبل الغرب؛ المنقطع عن أصله وجذره، وبين كل موروث ثقافي ضارب جذورَه في عمق تراث هذه الأمة الخالدة.

وإذا كانت الناقدة الفرنسية سوزان برنار تعرف قصيدة النثر بأنها " قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور...خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية"، فإننا نستطيع وبما لا يدع مجالا لأي قول آخر؛ أن نطلق هذا التعريف على ما يطلق عليه في عالمنا العربي " قصيدة النثر " كذلك.

وإذا كان هذا التعريف ينسحب على ما يكتبه أتباعهم ومقلدوهم من العرب، فإنه من الأجدر بهم أن يطلقوا أي اسم آخر على كتاباتهم، فلو أن ما يكتبونه قصيدة، فماذا نقول على كتابات ضياء الدين بن الأثير وسابقيه ولاحقيه من خيرة الكتاب الذين حُفِرَتْ أسماؤهم في الذهنية العربية الأدبية، بل وماذا نقول على ما كتبه طه حسين في " جنة الشوك "، وغير أولئك الكثير والكثير.

ألا يحق لنا ههنا أن نثير سؤال مهما مفاده: إذا كان هذا هو تعريف سوزان برنار لقصيدة النثر الغربية، فماذا يمكن أن يكون التعريف المناسب للقصة الومضة؟

لقد أبدع الشعراء الغربيون في الخروج عن الأوزان الشعرية المعروفة لديهم فكتبوا في القالب النثري الذي يخصهم هم، وأكثرهم شهرة شارل بودلير، ومالارميه، وآرثر رامبو، وبول إيلوار؛ غير أنهم لم يركنوا إلى مثل هذا التفاهة التي نراها ماثلة أمام عيوننا لدى كثيرين ممن يكتبونها عندنا، فحينما كتبها العرب تأثرا بالغرب جاءت كنص مترجم غير متماسك ولا متراكب، ولو أنك جمعتها كتلة واحدة؛ لكانت فقرة من قصة قصيرة، أو قصة ومضة، وديدنهم في كل شيء أنهم كلما دخلت أمة لعنت أختها.

زد على ذلك ما يبدو عليها من رداءة وركاكة خاصة من أولئك الذين لا يملكون من قواعد اللغة إلا اسمها ورضوا بأن يكونوا مع القواعد الذين لا يفرقون بين الفعل والفاعل ولا بين التركيب اللغوي السليم وتعتعة الطفل الذي يحبو بالكلام كما يحبو بالمشي.

وما يزيد الأمر سوءاً أولئك العجزة من النقاد الذي يسوِّقون لنا أسماء يلبسونها ألقابا هي أكثر اتساعا على من يحملونها؛ أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وللأسف تستشري وتنتشر انتشار النار في الهشيم على أيدي أولئك العجزة من النقدة والناشرين على حد سواء الذين لا يستطيعون أن يقرؤوا بيتا واحدا من الشعر قراءة صحيحة.

ولا غرو أننا نشاهد منهم الكثيرين في ذلك الفضاء الوسيع من مواقع التواصل الاجتماعي التي يهلل فيها الجاهل لمن هو أكثر جهالة منه، وينقلها الناقل على أنها درر لا مثيل لها، وينشرها الناشر لا لشيء إلا ليملأ بهذه الترهات والتفاهات صفحاته البيض، فتصبح غرابيب سوداً.

إن الأمر يحتاج وقفة من الغيورين على لغتهم وعلى ثقافتهم وعلى قوميتهم التي كانوا عليها حتى نضع مثل هؤلاء في مكانهم الصحيح في " مزبلة الشعر والنقد والكتابة"، ونعيد لأولئك المستحقين صدارة المشهد الشعري على امتداد عالمنا العربي بما يعيد للغة رونقها وبهاءها والألق الذي كانت تجري عليه، وللشعر صدارته التي كان عليها، ولا نركن لمن يدعون إلى التراخي وترك ساحة الشعر تجري في أعنتها حسب هوى الجهال شعرا ونقدا وثقافة، وإنه لمن الظلم البيِّن أن يقع للغتنا العربية بما لها من هذه القيمة والمتصدرة كل اللغات بما لها من بلاغة وحسن نسق، وجمال تركيب، وبين ظهرانينا كل هؤلاء النقاد والمبدعون الحقيقيون موجودون في كل مكان على امتداد عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج.

ولا ريب أننا في حاجة ملحَّة إلى أن يقف مثل هؤلاء المبدعين والشعراء والنقاد تشكيلا وتنظيرا لإخراج كل ما هو غث، وإبراز كل ما هو سمين، وقمين بنا أن نفعل ذلك، ونحن أمة الشعر، وأهل اللغة من الفصاحة والبيان، فإما الشعر، أو اللا شعر في تلك الفوضى التي تتربص بلغتنا الدوائر من كل حدب وصوب.

شاعر وأكاديمي وصحافي مصري

[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم