الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

حديثُ الشِّعر... عن التجديد والمُعاصرة والضفاف المُغايرة

المصدر: "النهار"
الحسام محيي الدين
حديثُ الشِّعر... عن التجديد والمُعاصرة والضفاف المُغايرة
حديثُ الشِّعر... عن التجديد والمُعاصرة والضفاف المُغايرة
A+ A-

قد يُسفِرُ تقدُّم الزمن عن أمورٍ لا يتوافر عليها تقادمه، ولكنّ ذلك لا يعني تفضيل ما تقَدَّم منه على ما تَقادَم. ولا يلغي الزمنُ الفكرةَ، والفكرةُ قدْ تُلغيه، وتتجاوزُه. في مفهومِ الحداثة الشعرية، يجبْ ألا تكون الحقبةُ الزمنية - ولم تكن يوماً - هي العقدةُ الوحيدة التي قامتْ عليها أسُس التنظير لما يُعرف بالشِّعر الحديث منذ منتصف القرن الفائت. ذلك أنّ الموهبة الفذّة للشاعر هي التي كانت الكفيلة وحدها بتبيان شجاعته في تجديد الشعر العربي المعاصر واقتحام أسواره برغبة التغيير الايجابي ونقله نوعياً إلى ضفاف مغايرة لواقع نظرية التقليد الشعري المتواتر منذ العصر الجاهلي. وهو ما حاول فعله الرُّوادُ الاوائل منذُ مُنتصف القرن الماضي مع السيّاب ونازك الملائكة ورجال مجلتيّ "شعر والآداب": أدونيس وخليل حاوي وجبرا ابرهيم جبرا، محمد الماغوط ونزار قباني الخ، ما عكسَ جودةّ الخطاب الحداثي في تلك الفترة للانطلاق في تجربةٍ رائدة ومحاولةِ ترسيخها في سيرورة الأدب العربي،  فلا تقتصرُ على الجانب التِّقاني في شكلِ البيت الشِّعري واخراجهِ الطِّباعي، وإنّما في لبِّ المفهوم النظري للحداثة كتجربة حضارية، يردفها بالضرورة معطَى تطبيقيّ في النصّ موازٍ لذلك المفهوم، ما يعني تبلورَ تحوُّلٍ شعري جديد له حضوره وقوتُه في حركية الشعر العربي دونَ التفَلُّتِ منَ الموروث القومي أو الانساني، هما اللذان لا غنى عن استيحاء رموزهما واسقاطها تلميحاً أو تصريحاً على قضاياهم بتخييلٍ ناجِع: الحلّاج تمّوز وعوليس وسيزيف وأدونيس وعشتروت، قدموس وأليعازر والمسيح الخ.

وإذْ لمْ تُسعِفِ الأقدارُ جميعَ أولئك الرواد، روّادُ الرعيل الأول، بالعمر المديد، فإنهم كانوا في حالة صراع دائم مع الوقت لأجل الوصول الى تلك المشهدية الشعرية المنشودة. ولم يكن الشعراء بعدهم أو ما يمكن تسميتهم بالرعيل الثاني بأقلَّ اندفاعاً عن الأوّل على متابعة البحث في ضرورة ترسيخ قاعدة نقدية للشِّعر الحديث تنطلقُ من إبداعاتهم، إذ مارسوا كتابة الشعر من النقطة التي توقف عندها أسلافهم وتكلفوا عناء متابعة الطريق الحداثي كإقرارٍ ضمنيّ أنَّ الحداثة وقعَتْ وفُتِحَتِ الأبوابُ لها برغم التباين النظري بين منظريها المعروفين كأدونيس ويوسف الخال وكمال أبو ديب ورشيد يحياوي وغيرهم، ممن اضطربتْ لديهم مفاهيم الاقتراب من المفهوم الغربي للحداثة وعلاقته بالشعرية العربية، وهو ما أدّى بالطَّبْع الى زيادة العزوف عن البحث في تحقيق - أقلّهُ - مقارباتٍ نقدية للشِّعر الحديث من قِبَلِ الرعيل الثاني، ولو كان الأخير قد غاصَ على تجارب فردية ناجحة خاصة به.
بعد ذلك، وقعت الشعرية العربية في المحظور فانفلتتْ راهنا في تدبيجِ المقالات التي تتكرر فيها المفردات نفسها والمصطلحات المأخوذة مما كتبه الرواد الحداثويون، كالفضاء اللامحدود والآفاق الجديدة أو التحرر من قيود الماضي وما الى ذلك مما تمتلىء به صفحات الجرائد أو دفّاتِ الكتب هنا وهناك،  والتي لا تعدو كونها في خانة المُصَفّقين لنهج الحداثة في الشِّعر دونما إنتاج فكري أو أدبي مُثمِر منها يعضدُ تلك المسيرة الشاقّة فعلاً. وقدْ يقولُ الشاعرُ الحداثي اليوم وعلى سبيل فَرْزِ المهام وانفصالها أدبياً أنَّ تحقيقَ قراءةٍ نقديةٍ لشعر الحداثة هوَ من جوهرِ الحقلِ المعرفي للنّاقد تأسيساً على ثقافة هذا الأخير المتّسعة ومحاكاتهِ الفنّية (المُفترضَة) وملكَتِهِ في تناولِ النص بمنهجيةٍ تعبُرُ به الى أقصى ما يمكن استخلاصهُ من مُمكناتِ النصّ الشعري بمنظور أكاديمي ترفده ذائقة انطباعية تستلهم الشعور وبما هوَ - أي النّاقد - عينٌ نافذة تعيدُ إنتاج دلالات النص الشعري واعادة تكييفها وفاقَ استجابةِ القارئ وتفاعله، ما يعني - وهذا ديدنُ الشّاعر ومنتهى آماله - الفوزَ باهتمام المتلقّي والطّمع في استقراره إعجاباً ووجداناً داخل الفضاء العام لقصائده وتعلُّقِهِ بها. هذا ما قد يقوله الشاعر الحَدَاثي اليوم لأسبابٍ متعددة، ظاهرها الحق وباطنها بعض الباطل، كأنْ يُخفي معاناته الفكرية في تخلُّفِهِ عنِ استلهامِ المعنى الحقيقي لحداثته في النصّ وفهمِ تلكَ الحداثة كتجربةٍ خاصة من ضمنِ المشروع الجديد للشعرية العربية ليروغَ عندئذٍ إلى التلَطّي وراءَ فرْزِ المهام بينَهُ وبينَ النّاقد كما ورد أعلاه.

كلُّ ذلك ينافي آفاقَ المشروع الحداثوي ووضوحَ التزامه بالتجديد كصورةٍ مجرّدة ومعنوية تقتربُ منَ النهوض بحركة الشعر (محلياً وعربياً) الذي نريده كما يتعارض مع وجوب أن يبادر إلى التصريح عما يريده في تجربته كشاعر من خلال النص كفرْض عَين تماماً كما فعلَ أربابُ الرعيل الأول من شعراء الحداثة. فالسياب والملائكة ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا ونذير العظمة وخليل حاوي وعصام محفوظ وفؤاد رفقة والماغوط وأنسي الحاج جميعهم. نعم جميعهم نظّروا للحداثة عدا نظمهم الشعر بشكلٍ أو بآخر فكتبوا وتحدثوا طويلا وبوضوح عن مظاهر القصيدة وتَمَرْحُلِها من العامودي فالتفعيلي فالحُرّ فالنَثري، وعمّا يريدونَ من إسهاماتٍ مؤثّرة في حركة الشعر العربي. وليس أدلّ على ذلك من محاضرة يوسف الخال عام 1957 في الندوة اللبنانية التي عرض فيها لعملية الابداع في المشروع الشعري الحديث دون مواربةٍ ولا مُسايرة والتي عادَ وأكّدَ عليها فيما كتبهُ لاحقاً عام 1982 (أي بعد عقودٍ من انطلاق قطار التحديث الشعري) معبّراً عن سعادته بلقاءِ خالقه: وفي يده اليُمنى حركة شِعرية غيّرتْ إلى الافضل مسيرَ الشِّعر العربي! مُتمّماً بذلك الشّطر الخاص به من مهمة ترسيخ مفهوم نظري للشِّعر الحديث بموازاة استكمال شطره الآخر الذي هو في صلب وظيفة النّاقد دونَ حرجٍ منهُ ولا خوف ومتصدّياً بفروسيّة لمسؤولية ما يأتي به إلى حاضرة الشعر العربي هو وأقرانهُ في أنقى وأجملِ وضوحٍ أخلاقي لكلِّ منْ يحملُ فلسفةَ الابداع في الشِّعر أو غيره من الفنون أمام القارئ أو الناقد أو المجتمع وهذا هو المُنتظَر والمطلوب بالضرورة اليوم من غالبية من يكتبون شعراً اقترفوا فيه من الاضطراب الفني والإبداعي (الثقافي) ما اقترفوا، والذي رانَ بثقله على صفاءِ الذوق العام للقارىء العربي راهناً واستقرارها أدبياً. ما جعلهم من مقلدي الحداثة أو فلنقلْ مُريديها وأتباعها وليسوا أبداً تلامذتها النجباء الذين حافظوا وطوّروا من مظاهرها النظرية وأدواتها ومن ثم تطبيقاتها التي تبلورُ شاعرية الشاعر في فهمه وادراكه لزمنه ووعيه لتجربته دونَ الانقطاعِ عن تُراثهِ كبُعْدٍ ميتافيزيقي في الممارسة الشعرية،  وهذا شأنٌ اقتنعَ بهِ كُثُرٌ من رواد الحداثة الشعرية في العالم ومارسوه في شعرهم وفيما كتبوه من نقد أيضاً.

أما المأمول، فليسَ تعزير الشاعر مهما كانت رؤيته الشعرية ومفهومه للإبداع، بل مطالبته بتقديم تفسير لما يطرحه وما يعتبره جديد فنياً في الشكل أو المعنى، وأنه ذو جدارة وحاجَةٍ يمكنُ تلقُّفُها ودَرْسُها منْ قِبَلِ النّاقد في مسيرة الشعرية العربية وإلا فإن الفيصل سيكون لفوضى التأليف والنشر كما يحدث الآن ولاحقاً أيضاً، إذا لم ينصرف عشرات وربما مئات (الشعراء) اليوم لبنانياً وعربياً عن مُطارحة الشِّعر مع الرداءةِ، فيُزِيلوا تعدِّياتهم عليه معَ اعطائهم حقَّهُم في التوجُّهِ الى أنواع أخرى كالكتابة نثراً. فلماذا لا يتجهون إلى النّثر في النصّ؟! ولمَ التمسُّكُ بلقبِ شاعر ولا شِّعر؟! ما الذي يشكو منه لقبُ ناثر أو أديب مثلاً؟ نَثْرُ العرب كان صفوةً في التألق والغنى البلاغي بل وطابعهِ المدنيّ بمعناه التفاعلي أدبياً مع المُتلقِين ويرقى إلى الشِّعر في كتاباتِ مُخضرمي اللّغة العربية منذ القرن الثاني الهجري كما كان تخييلياً ينافس الشعر في مبناه وصوره وغاياته، ولا يُكَمِّلُهُ أبداً ولذلك اتفَقتْ العرب على أنه لا يمكنُ الجمعُ بينَ الابداع شعراً ونثراً في شخصٍ واحد فإمَّا هوَ شاعر، وإمَّا هوَ ناثِر تماماً كأبي منصور الثعالبي الذي عاشَ سنواتٍ بين القرنين الرابع والخامس الهجريين وعَدَّهُ البعضُ رأسَ النَّاثِرين عندَ العَرَب على الاطلاق، مع أنَّهُ نظمَ الشِّعر وكانَ فيهِ أقَلَّ جودةً وإجادة فلمْ يتمّ أخذُهُ في حَيِّزِ الشُّعراء المُجيدِين المعروفينَ والفحولِ الموصوفِين في عصره وهوَ لم يحتجّ ولم يثُرْ على ذلك!

كما أنَّ النَّثْر كانَ حاضراً في مضامينِ المُراسلات والدَّواوين وحوارِ المواقفِ والمقارباتِ الفكرية منْ دينٍ وعلومٍ وأدبٍ واجتماع وغير ذلك، إضافةً إلى نصوص اللَّطائف والظَّرائف التي اجتاحتْ قسماً كبيراً من كُتُبِ التُّراث والتي لا تزالُ مُسْتساغةً للذَّوق العام على قِدَمِها، فضلاً عنِ الفَنّ المسرحي الذي وإِنْ وُلِدَ شِعْرياً من جهة ومتأخراً عن النفاذ الى البيئة العربية من جهة تالية،  فإنَّهُ تحوَّلَ معَ الزَّمَن إلى النَّثْر الذي لمْ يُقلِّل منْ أهميّة الإبداع النّصي وايصاله الى المُتَلقّي فوقَ الخشبة برؤيةِ مُخْرجِه وأداءِ مُمَثِّلِه وهوَ ما تلقَّاهُ الجمهور برضىً وأريحيّة، سواءً كنصٍّ مقروء وحسْب أو مقروءٍ ومُمَسْرَحٍ معاً. وكما لا يستقيم الالتفات عن الشعر كمرآة عصره وزمانه تلميحاً وخيالاً وبعضَ تفصيل للواقع بكافة حدثانه،  فإن النثر أيضاً كان أجدى وأغنى بل وآكدُ في الالفتات إليه كتشكيلٍ لغوي ثرّ المعاني والايحاءات في روائع الكتب العربية الفائقة الأصالة والغنى الأدبي التي تواترت إلينا عن جهابذتها كالإمام علي والتوحيدي والجاحظ وابن المقفع واخوان الصفا والهمذاني والحريري... الخ، الذين تركوا لنا نصوصاً بالغة الفنية بموضوعاتها المتنوعة والنوعية أدباً محلياً وعالمياً في مخرجاته البلاغية كصورٍ ناضجة الدلالات ومادةً تفاعُليّة وظَّفَتْ خيالَ كُتَّابِها لإِمدادِ القارئ العربيّ بتلاوين أشكالها البديعة، بل وبالفائدةِ العِلْمية والتاريخية أيضاً عطفاً على تلك الأدبية كما يبدو ذلك في متون وحواشي المصادر التاريخية والمصنفات المرجعية في تصوير الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لكل حقبة على حِدَة، كما في فرائد تآليف ابن قتيبة (ت 276 هـ) والنّويري (ت 733 هـ) والقلقشندي (ت 821 هـ) والسيوطي (ت 911 هـ) وغيرهم.

ويُضاف الى كل ذلك، القاموس اللغوي ذو المنحى الصوفي الذي دخل العربية مع البسطامي والسهروردي ابن عربي وابن الرومي والحلاج وغيرهم ممن كتبوا النص النثري - والشِّعري طبعاً - ما بين الحكمة الدينية والمواعظ الاخلاقية وفاق رؤيتهم الى الايمان بالله والتي كان بعضها رديفاً للنص الديني والبعضُ الآخرُ لاشباع الجوع الروحي لدى الجمهور القارئ على تقادُمِ الزمن بينهم. إنَّ كل تلك النفائس الأدبية بين الشعر والنثر كانت لتشكل حافزاً ثقافيا وثَبْتاً يرقى إلى ملامح القداسة في ذاكرة العربي قديماً وحديثاً بحيث لا يمكن تجاهلها ولا إهمالها في واقع القصيدة العربية اليوم كما لم يتم إهمالها - وهذا هو الحق - من قِبَلِ رُوّادِ الرعيل الأول من الحداثة الشعرية أنفسهم وهو ما يعني الدفعُ إلى إعادة تَمَوقُعِ الرُؤى والآراء النقدية في شِعْرِ الحداثة اليوم وتحويلها إلى أداة فاعلة في تنقية الجو الشعري الحديث من درَنِ الرغبة لا الموهبة في الفوزِ بلقَبِ "شاعر" ما يعني صحوةً نقدية تبدأ مِنْ تحديد أو فلنقُل اعترافِ الشّاعر نفسه بما يريد ولماذا يكتب ولمن؟ دونَ إدخال القارئ في تعاريف ما يُسمى بقصيدة النثر والشعر المنثور والخاطرة الشعرية أو في بعض رتوش مصطلحات ما يسمى اليوم بالتكثيف والايجاز والوميض والتي تُشوِّشُ ذهنية هذا القارئ وتقوضُ وعيهُ الأدبي (الفطري) بما يُكتَبُ له ويُنْشَرُ لأجله ما أوغَلَنا في متاهات التراجع المقيت والمقلق في تحقيق نظرية نقد للشعر الحديث انسحبتْ على مجالات الكتابة الاخرى كالمسرح الذي لم يبق في انتظار تلك النظرية طويلاً بل بادر الى كسرِ العامود الخليلي فيما كُتِبَ فيه من مسرحيات لأدونيس وصلاح عبد الصبور والماغوط وعصام محفوظ وغيرهم، ومن ثم اتّزَرَ بالنثر الذي نجح في مهمته البديلة عن الشعر كصيغة مُمَسرحة.

وهذه المطالبة بتحديد الشاعر الحداثوي اليوم لهدفه، إنما تأتي بعد مجموعة التَّحوُلاتِ النصّية راهناً والتي لم تكنْ مُتَّزِنة ولوْ أصرَّ كتَّابُها على سماتِ تَجَدُّدِها ذلكَ أنّها تناثرتْ في حيرةِ التوجهات لدى الشعراء أو من أسميتُهم آنفاً ذوو المُدَوَّنات أنفسهم في رسم أو تحديد الحيّزِ الحدَاثِيّ الذي يعتبرونه ملائماً لثقافتهم ولانتمائهم المُجتمعي أو الطائفي (تحديداً لبنان)، كما ارتبطتْ بفوضى التخبُّط للارادة المترددة بين الفضاء الانساني الأرحب والتأطير المُتعاهدِ معَ المُعتقد الديني. فلا يجبُ أنْ تغيبَ عنْ بالنا الحقيقة الدينية التي تمكنتْ من الامساك بأطياف المشهد الثقافي كَكُلّ وليسَ الشعري فحسب، بما هي معنًى طائفياً فجّاً في كثير من دلالاته. وهو ما يمكن توثيقه بكل سهولة في كتابات البعض الذي يتكاثر من "الشعراء" حالياً كتاباتٍ وآراء. إذْ أنَّ شعرهم عملة واحدة بوجهين كلاهما مُتَمَذْهِب إلى حدٍّ كبير فهوَ مِنْ ناحيةٍ مولِّدٌ للشعر على طبيعته مع محاولة هيكلته بتقنيات بلاغية مُنتقاة بدقّة تُوحي بالانفتاح في الفكرة والنص. ومن ناحيةٍ أُخرى هوَ مُمارِسٌ للُعبةِ تعليبِ النصّ بالصّيغة الصّوفية أو العرْفانية ومقاصدِها التي سيطرتْ اليوم وبشكلٍ كبير في مفكرةِ صُوَرِهِم الفنية، وكلاهما يمارسُ تَشَكُّلَ استراتيجيته البديلة للمُعطى الديني واخفاءً له ويحاولُ التأثير بشكلٍ أو بآخر بوعي القارئ المحلي والعربي، الشرقي بالطبع أو فلنقُلْ باختصار هي الخطة "ب" في إخراجِ النصّ للقارئ. ما أُورِدُهُ هنا يحتاجُ لا شكّ الى الاغتناء بالتصورات النقدية المحلية والعربية وإنْ كانَ الطموح هوَ في مواجهةِ أو على الأقل مثاقفةِ مفاهيم النقد التي وفدتْ إلينا منْ اوروبا تحديداً مع الشّكلانيين الروس وعَرّابِها ياكبسون وحلقةِ براغ، ولسانياتِ دو سوسير، قبلَ الوصولِ إلى ت. س. أليوت الذي لا بُدّ منَ التوقُّفِ عنده. وهي تصورات عمقَّتْ منْ فَهْمِ المقولات النقدية لشعراء الحداثة الذين بدَورهم تعمقوا في مقولاته النقدية وموقفه من مفاهيم الحضور الانساني في الأدب. لكن لماذا أليوت؟! لأنَّهُ العصب الأول في تَشكُّلِ مُنطلقات الحداثة الشعرية عربياً وعالمياً وأبوها الروحي كما هو مُؤكّد ليسَ في كتابة الشِّعر بلْ والنّقد طبعاً، وباستطاعة الباحث الحصيف على سبيل المثال تحقيق مقارنة في المعاني والتعبير بل والمصطلحات بين شِعر الرواد الحداثيين العرب وشِعر أليوت (محمود درويش مثلاً في بداياته الشعرية) ليجِدَ مدى تأثيرِ الأخير في شِعرهِم الذي ابتدَرَ الشِّعرية العربية وقتذاك وهو ما يحتاج دراسات مطولة بحد ذاته.

لكنَّ ذلكَ لا ينفي حرصَ أولئك الرُّواد على محاولاتِ النّهوض بممارساتهم الشعرية التي تنسابُ فيها المشاعر والأفكار في مجاري الاستجابة الجماعية في حينه من الصيغة العقلية النظرية الى التطبيقية لتجاربهم الشخصية، بقدر ما أسعفتهم مشاعاتُ قدراتهم الفنية لممارسة تلك المقولات بصرف النَّظر عن فضاءات نجاحهم في تلك المحاولات المحمودة. وهُمْ بذلك لمْ يكونوا أبداً مُتَمَرّدين على التُّراث بِرُمَّتِهِ، بلِ اتَّبَعوا أليوت أيضاً في هذه الخاصية: يقول أليوت في كتابه "فائدة الشعر وفائدة النقد": "إنّ جِدّة الشِّعر لا ترتكزُ على العواطفِ التي يعبّرُ عنها بلْ ترتكزُ على قدرته في هَزِّ الوعي السّائد بواسطة أبنية جديدة تحطِّمُ النُّظُم التقليدية"، مستدركاً أنه يجبُ ألا يؤدّي ذلك إلى نوعٍ مِنَ الحريّة المَقيتة. إذْ وكما هو معلوم، فإنَّ أليوت أحسَّ بعصرهِ عميقاً إلى جانبِ تأثُّرهِ بالتّراث الإنساني فكانتْ رؤيته الفنية مرتكزة الى روائع مَنْ سبقوهُ كدانتي الإيطالي وميتافيزيقية شعراء القرن السابع عشر إلى رمزية الفرنسيين لاحقاً، وهي جميعاً منَ الموروثِ الشعري الرائع الذي لا يمكنُ مواجهة حقيقته كإبداع عالمي حتى اليوم. فلماذا يحقُّ لإليوت ما لا يحقُّ لغيره؟ ليسَ ذلكَ فقط بلْ أنَّ شعراء الحداثة أنفسهم في القرن الماضي - الذين تحمسوا لإليوت - واجهوا تحدياً كبيراً بينَ ما تمنّوه أوْ توقَّعُوه وبينَ ما قرأوه منْ قصائده حينَ تمعّنوا فيها فكانَ عليهم الثّبات كمجدّدين وعدم التّراجع أمامَ جُمهور الشِّعر محاولينَ توليفَ ما أتى به اليوت بصيَغٍ محلية تخدمُ مشروعهم الشعري للتجديد وهو أمْرٌ لمْ يدهم شعراءنا الحداثويين وحدَهم، بلْ غيرهم من شُعراء الامم الاخرى التي لم يكن تأثير اليوت فيها بأقلَّ منهُ فينا  واذا كانَ الحالُ كذلك في البدايات المُنْدفعة لمحاولات تجديدِ المُمارسة الشعرية في القرن الماضي، فإنَّ ما يحصل اليوم هو سكونيةٌ حركية وانكِسار عقيم يعيشُه أبناء الشِّعرية الحديثة الذين وبمعنى آخر تهومُ رؤاهم على السَّطْح دونَ الغوص على بلورةِ تجربة متآزِرَةِ المناحي مُستمدة من واقعهم المُدْرَك، وليسَ منْ بناتِ تخييلاتهم فحَسْب، ومتماسكة دونَ تفكيك، اقتداءً بما فعله الرواد. وهو ما يمكن اعتباره انقلاباً على مفاهيم أليوت التي هي بشكل أو بآخر شكلتْ بؤرةً تقويمية ونقدية لأُوالِ النّاطقين بالحداثة الشعرية.

وحتى مسرحياً فإنَّه يمكن تطبيق النظرة النقدية لإليوت. ذلك أنّه بالرغم من التحديث في لغة المسرح من الشِّعر إلى النّثر، فإنَّ ظِلالَ التراجيديا اليونانية منذُ القرن الخامس ما قبل الميلاد ظلّتْ مُمسكةً وبقُوّةٍ بالنص والعرض حتى عصورٍ مُتقدِّمَة في أوروبا كالاليزابيتي، الذي وإنْ تمرَّدَ بعضَ الشّيء على الكلاسيك الاغريقي (شكسبير كمثال فاقع)، إلا أنّه لمْ يَخُنْهُ في خصائصِ النصّ الدّرامي كعرضهِ بِلُغةِ الشِّعر أو تقديسِ البَطل الأوحد في المسرحية كشخصيةٍ تُحتذى أو الصّراع بينَ الحُبّ والواجب. وهنا تجدر الاشارة إلى أنّهُ لا يزالُ لتلك التراجيديا حضورها في أوساط الدارسين والجامعات وحتى الجمهور المتابع، وهو ما رصدَتْهُ بعضُ الدّراسات النقدية الحديثة في تناوُلِها فئاتٍ كبيرةً من الجمهور المُتعطِّش للشِّعر ولا تستطيعُ سوى المسرحيّة الشِّعرية له إشباعاً.

 [email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم