الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

دور نقابة المهندسين في العمل الوطني

محمد حسني الحاج - مهندس وأستاذ جامعي
دور نقابة المهندسين في العمل الوطني
دور نقابة المهندسين في العمل الوطني
A+ A-

وصل مجتمعنا اللبناني إلى عتبة تحوّلات مصيريّة سوف تترك آثارها لعقود طويلة على مستقبله، وتتفاقم مأساته بعد ما كشفته الكورونا من غياب كلّي لمؤسساته الصحية والاجتماعية. وتستمر انتفاضة الشعب ضد المنظومة السياسية المتسلّطة على مقوّمات الدولة باسم مذاهبها لتأمين مصالحها والانتفاع الشخصي منها بذهنية مافيوية، فأصبحت الأكثرية الساحقة من المواطنين اللبنانيين ضحايا صراع أطرافها للاستئثار بالمغانم. ونتيجة لكلّ هذه السياسات لامس الفقر أرقاماً تجاوزت 40%.

إن كل المؤشرات المجتمعية التقليدية تفضح الأزمة التي نعيشها وعجز السلطة عن وضع حلول لها، وهي السبب في انفجار انتفاضة الشعب اللبناني في 17 تشرين الأول 2019. وعلى الرغم من الحجر، يستمر الثوار بمساعدة المحتاجين، والتي تجلّت بأبهى مشهدية ديموقراطية نسجتها التظاهرات الحاشدة العابرة للمناطق والطوائف والانتماءات الحزبية، مطالبة بتشكيل حكومة، قادرة على اتخاذ تدابير إنقاذيّة ومحاسبة الفاسدين ومعالجة جدّية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية.

في هذا اللبنان، التائه بين ظواهر التفرقة والتنابذ والحروب واستمراره كساحة للآخرين، سيطرت وقائع ودلالات هشاشة بنيانه دون المجتمعي وإشكاليات شطارة الريع العقاري والاستهلاك السلعي والخدماتي، وتراكمت الأزمات بنتيجة سوء التخطيط وضعف الإدارة، ما أفضى إلى حروب مستمرّة حتى اليوم ولو بأشكال متنوعة، وإلى عدم قدرة المنظومة الحاكمة على اتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية المجتمع. وأصبح شعب بأكمله مهدّداً ومسكوناً بالخوف دون أيّة حماية.

لا مفرّ لنا من البحث والتوافق الاجتماعي على دولة مدنيّة قادرة على إرساء قيم جامعة، وهذا يتحقق بإرادة انتفاضة منظّمة ومبتكِرة لإطار تفاعليّ لمكوّناتها. إن عيشَنا بحاجة إلى نمط من السلوك الثقافي تغلب عليه صفات الحرية والعلم بأبعادها الإنسانية والمجتمعية، وهو تطور موضوعي يحصل من تضافر منظومة قيميّة مؤاتية!! ثورة اللبنانيين بدأت باستكشاف أنساقها من استيلاد رؤى للتحولات الجذرية في سبيل دحر الفساد واستعادة السيادة الوطنية وتصحيح مسار بناء الدولة، وتخليصنا من هوامش فكرة وطن بانتقالنا إلى الصيغة المجتمعيّة لثقافتنا الوطنية ولمؤسسات يسودها القانون والعدالة في استثمار مواردنا وتوزيع ثرواتنا.

حتى اليوم لم تتبلور الكيفية المعتمدة في النقاش المحتدم لابتكار صيغ تمثيلية لإطارها السياسي، فتتعدد الآراء وتتفرع بين الثوار، ويعتري بعض من مساحاتها اختلافات وتباينات، وفي البعض الآخر خطاب انتقائي وعدم اتزان في البرنامج التغييري تصل في بعض مستوياتها إلى اللاعقلانية في إدارة الحراك الشعبي. من شأن بعض هذه التباينات أن تعيق جهوزيّة المجموعات المنتفضة وبداية الانطلاق لإنتاج سلطة سياسية تعبّر عن ولادة جمهورية تمثّل آمال الثورة بنقل المجتمع من المحاصصة الطائفية والمذهبية إلى نظام المواطنة.

لا تتحرّك ثورة من دون رواد وثقافة وعلوم وفنون وإدارة مؤتمنة غير ملوّثة. ومن غير الممكن نجاح هذه الثورة من دون إطار جامع لمختلف الشرائح المتضررة، ومنها بشكل رئيسي قطاعات المهن الحرة. إن نقابات المهن الحرة تحتل أهمية متزايدة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتترافق هذه الأهمية مع ازدياد وتأثير أطرها في الصيرورة الإنتاجية وفي تشكّلات الوعي والانتماء الوطني، ما يحمّل المجموعات الهندسية المتشكّلة في ساحات الثورة مسؤوليات كبيرة، خاصة في انتخابات نقابة المهندسين المقبلة، والتي ينبغي قياس تناسبيتها مع المسؤوليات الجسام لنقابات المهن الحرة ولدورها في بلورة مفاهيم المواطنة اللبنانية، ما يسمح بصياغة برامج عمل قادرة على الإسهام في الانخراط الفعال في قضايا النقابة وإدارتها في مرحلة انتقالية ضرورية لاستعادة دورها. لذا لا بد للإرساءات المعرفية لهذا الدور من الاستفادة من تراكم نضالي للتيارات الهندسية والمهنية المستقلة منذ تسعينيات القرن الماضي، والتي ما زالت فاعلة في أكثر من صعيد، وتطوير ما حقّقته من مكتسبات، والعمل على إعادة تنظيم النقابة لتعكس الوضع الحالي للمهندسين، على أساس وحدتها لجميع فروع الهندسة، وتفتح المجال لإدارة رشيدة للنقابة لتحقيق انتظام الأداء المهني في كل الاختصاصات. إن للنقابة دوراً أساسياً في تطوير مؤسسات الدولة، وفي الدفاع عن القضايا الوطنية والحريات العامة، وهي تتحمل مسؤولية مباشرة في متابعة استراتيجيات التخطيط العمراني واستعمالات الأراضي، وفي الإشراف على السياسات التنموية، وهي المؤسسة القادرة على إنتاج ثقافة التنمية المجتمعية.

مهما تعدّدت أدوات المواجهة، ستبقى الثقافة المجتمعيّة الأكثر دينامية مع مستويات الوعي السائدة وطرائق تجسيد أدائها وأدوارها. والمهندسون يتمايزون بتأثيرهم المباشر في بنيوية المؤسسات. والتحديات الكبيرة للمتغيرات التي فرضتها انتفاضة شعبنا اللبناني بحاجة إلى المهندس النقابي والمثقف والقادر على التعامل مع الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية، لأن المهندس الممارس لمهنته فقط، سيبقى مجرد مصنّع جيد، وغالباً تغيب عن أولوياته المتطلبات الحسّية والقيمية الاجتماعية لأنه يحصر حسّه بالوجود في تخصُّصه، ما يبقي همومه في المستوى الشخصي، الأمر الذي يختزل رؤاه بالتحيّز المنفعي لمصالحه، ويصبح متلقّياً للمعرفة ويتعامل مع مصنّعات لإرضاء حاجته، لا مع مصنّعات كان له دور في إنتاجها، ما يجعله خاضعاً لنظام سلعي متعولم وغير قادر على الانخراط في توفير الاحتياجات الاجتماعية والإنسانية.

لا مفرّ أمام المهندس من القيام بدوره في إحداث نقلة نوعية لمستويات الوعي في مواجهة تسليع الاحتياجات الإنسانية. سيبقى المهندس مبدعاً لفضاء وظيفي وجمالي ومنظماً له، هو مطور للواقع ومنتج للمعرفة لارتباط أدائه المهني بمؤسَّسات الدولة وبالقوانين والتشريعات النافذة، وبمزاولة المهنة والأنظمة المنبثقة عنها. هو القادر على تظهير الإشكاليات المتأتّية من الإدارات الفاسدة وفي ابتكار وسائل مواجهتها. هو الأقدر على توضيح الالتباسات الحاصلة للتفسيرات المستغلّة للأنظمة والقوانين، وهو الذي يستطيع ابتكار ملاءمة القوانين مع المستجدات والتحوّلات الحاصلة على مختلف مستويات حياة مجتمعنا.

في السعي لإعادة تأسيس الوطن بمعاني 17 تشرين، وفي الحقبة الزمنية التي سيطرت فيها منظومة السلطة المتحكّمة بكل مكونات المجتمع وجعلت من النقابات، ومنها نقابة المهندسين، توابع مهنية لمصالحها ومقيَّدة بإرادتها وعاجزة عن تأمين ولو الحد الأدنى من أدوارها، يبرز الدور المطلوب لنقابة المهندسين في تحرير ذاتها وتحقيق قدراتها واستعادة دورها المطلوب في رصد المؤشّرات العامة التي تحول دون تطبيق القوانين وفي انجاز قرارات تعديلية للنصوص التشريعية بما يتلاءم مع المستجدات التقنية والمعرفية بما يوفّر للمهندسين أسواق عمل ويُعزّز الأداء المهني بأبعاده الإنسانية والاجتماعية ويحافظ على مصالح المواطنين عامة، كما لضرورة العمل لإزالة الالتباس في تحديد مسؤولية المهندس وتوفير الحماية القانونية في ممارسته المهنية لصالح الإنتاج والسلامة العامة والجودة.

إن مواجهة خيارات السلطة النفعية يتحقّق بجودة الإنتاج الهندسي وبتحلّي المهندسين بقيمية الانتماء للوطن وبأمانة أدائهم المهني ليقف العبث الحاصل في إدارة مجتمعنا، وكذلك في العمل لتحويل النقابة إلى مؤسسة عصرية ذات هيكلية متطورة ومعتمدة على أحدث النُظم التقنيّة، الأمر الذي سيساهم بتحديث أنظمتها في كافة الاختصاصات الهندسية، ليقدر المهندسون على معرفة الدور والمسؤولية التي خصّهم بها المجتمع، ليستعيدوا حضورهم المهني والمجتمعي المتوافق مع متطلبات التنمية المستدامة.

هذه الرؤية لدور النقابة في العمل الوطني تستند إلى إنتاج فكري ونضالي للعديد من التجمعات الهندسية والنقابية المتشكّلة منذ التسعينيات، والتي عملت بجهد كبير على إحداث تطوير في أداء نقابة المهندسين وفي دورها على الصعيد الوطني، ومقالي المنشور في جريدة النهار بتاريخ 7 آذار2020 حول الدور الجديد لنقابة المهندسين يلقي الضوء على بعض مما قدّمته للعمل النقابي، وكانت محاولتها الأخيرة عام 2014 في تأسيس اللقاء المهني الهندسي، حيث أطلقت ورقة عمل استعرضت أوضاع النقابة ورسمت خريطة طريق لتدارك أسباب التراجع في الأداء المهني والنقابي ولتطوير هيكلية النقابة وأنظمتها، ولتعزيز دور المهندس ونوعية إنتاجه، ولدور النقابة في التخطيط والإنماء وكيفية جعلها مرصداً للأبحاث والدراسات لتلبية احتياجات مؤسسات الدولة، ودعت إلى بناء تشكيلات نقابية جديدة والخروج من دوائر التجارب السابقة، وحثّت هذه المكونات على تحمل المسؤولية بعمل نقابي فاعل لتعزيز ومتابعة دور النقابة في المجتمع.

قامت ثورة 17 تشرين الأول لتكشف عورات هذا النظام السياسي والاقتصادي المبني على إرهاب اللبنانيين وتقسيمهم إلى طوائف، واستدراجهم إلى نظام الزبائنية والمحسوبيات السياسية التي عمّقت من أزماتهم وفاقمتها. كان أحد أهم ضحايا هذا النظام، المهندس نفسه حيث توزعت المشاريع الوطنية على أقلية من المهندسين المحظيين عند أمراء الطوائف وأغلبية منسية غير قادرة على إيجاد فرص عمل ومطرودة من رحمتهم إلى بلاد الاغتراب. فمن القضايا الراهنة العمل من أجل نقابة تضع في أولوياتها إقرار التعديلات الضرورية في قانون مزاولة مهنة الهندسة وفي النظام الداخلي، تستند إلى إعطاء صلاحيات أوسع للفروع ولتنظيم وتشريع المهن الهندسية، وزيادة عددها بما يتناسب مع الاختصاصات المستجدة. كما ينبغي استكمال وتوسيع التشريع اللازم من قبل الدولة اللبنانية لاستصدار قوانين تنظّم عمل القطاعات الهندسية وتطوير وتحديث تشريعات قطاع البناء، والعمل على تفعيل دور اتحادات البلديات والبلديات في تفعيل الرقابة واستحداث مكاتب فنية لمراقبة الأعمال الهندسية ضمن نطاق صلاحياتها.

لم تعد نقابة المهندسين في بيروت بهيكليتها وتشريعاتها الحالية قادرة على تنظيم أعمال المهندسين المنتشرين على كافّة الأراضي اللبنانيّة بفعّالية، لذا من الضروري اعتماد اللامركزية وتفعيل دور مكاتب المناطق لتصبح مراكز للنقابة تعمل على وضع الأطر الناظمة للعمل الهندسي بالتعاون مع السلطات المحليّة، المحافظات والبلديات، لتقوم بدعم التشريع المطلوب والمراقبة المباشرة ومراعاة خصوصية كل منطقة.

من الضروري أن تعمل النقابة على تنظيم جباية المتأخرات من المهندسين وإعادة النظر في وضع المهندسين المشطوبين وجدولة جباية المتأخّرات وإيجاد آلية فعّالة تضمن الرعاية الصحية المتكاملة للمهندس وعائلته مع إدارة لضبط النفقات ومراعاة أوضاع المهندسين ذوي الاحتياجات الخاصة، المتعلّقة بنظام الاستشفاء، وإيجاد موارد تدعم صندوق التقديمات الاجتماعية للحفاظ على المعاشات التقاعدية للمهندسين واستحداث مكتب للمنتسبين الجدد لمساعدتهم في إيجاد فرص عمل وفي تأهيلهم مهنياً.

على النقابة اليوم أن تنجز "مرشد الأعمال ومرشد الأتعاب" الذي من شأنه تنظيم علاقة المهندسين حديثي ممارسة العمل الهندسي بزبائنهم ضمن ضوابط ومعايير موحّدة تحميهم وتحمي المواطنين، كما وانتزاع التشريعات القانونيّة اللازمة التي تنظّم عمل المهندسين بحسب اختصاصهم، فهم ليسوا أجراء لدى المؤسسات العامة أو الخاصة، إلى جانب العمل على القوانين الضروريّة التي من شأنها تنظيم عمل المهندسين من خارج قطاع البناء في القطاعات الهندسية كافّة. كما أن لنقابة المهندسين دوراً مباشراً وريادياً على مستوى قضايا الشأن العام المتعلّقة بمخالفات البناء، الأملاك البحريّة، القضايا البيئية والأخرى المتعلقّة بملف الاتصالات والأتمتة والكهرباء والزراعة والتراث وغيرها.

تأتي انتخابات نقابة المهندسين والبشرية في أزمة وجود ، وادارة النظام العالمي لها هشّة وغير مجدية، وشعبنا اللبناني يتألم وفي صراع يومي مع كل أعرافه، ودولتنا منكوبة ومؤسساتها هزيلة وعاجزة امام التحديات الراهنة، والنقابات عاجزة عن اتخاذ التدابير الانقاذية، كل هذا يضفي على انتفاضة شعبنا اللبناني مسؤوليات جسام لترشيد مفاهيم المواجهة ومسارات الأمان الاجتماعي وضرورة توحيد مطالبها واساليب ضغطها الديموقراطي والعمل على تصويب العمل النقابي، حتى تقدر النقابات أن تكون من المؤسسات المشاركة في تحمّل مسؤولياتها الوطنية وفي وضع مقدّراتها لصالح تطوير الأداء المهني وتنمية مجتمعنا.لا بد لنقابة المهندسين، وهم الشريحة ذات التأثير الكبير في الهيكلية المجتمعية، من الانخراط في قضايا الانتاج المعرفي لتكون قادرة على التوفيق بين متطلبات المهنة ودورها الوطني.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم