السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

مذكرة بكركي ومقتضيات الهدف الوطني

موريس نهرا
A+ A-

حظيت المذكرة الصادرة عن مجلس المطارنة في بكركي، باهتمام وسائل الاعلام والعديد من الاوساط السياسية، كونها عن مرجعية لها مكانتها المميزة ودورها في تاريخ لبنان، وبالتالي لأنها تتضمن مواقف وتوجهات حيال الازمات والمشكلات الحادة في الوضع القائم.
ومن الواضح ان المقاصد والاهداف التي تكمن وراء اصدار هذه المذكرة، تنطلق من استشعار المخاطر التي يمكن أن يؤدي استمرارها بدون معالجة، الى تهديد الكيان والوضع اللبناني برمته. وان ما جاء فيها يحتوي على قسمين: الاول، يتعلق بالقضايا الراهنة الملحة، خصوصاً مسألة تشكيل حكومة يتمثل فيها الجميع، والتزام انتخاب رئيس البلاد وفقاً للمهل الدستورية تجنباً للفراغ، ومعالجة مشكلة الفلتان الأمني، والاوضاع الاجتماعية والمعيشية المتفاقمة... إلخ. ومع ان تحقيق ذلك في ظل سلطة الطبقة السياسية نفسها وعلى أساس المعايير المعروفة، لن يأتي بالحل المنشود، إلاّ انه أمر طبيعي صار الآن ضرورة حيوية للبلاد وتقع مسؤولية تحقيقها على اطراف الطبقة السلطوية، التي عوّدتنا على تغليب مصالحها الفئوية والشخصية على المصلحة العامة، حتى في ظروف استثنائية تنذر بالاسوأ، يتصاعد فيها قلق الناس وخوفهم على حياتهم ووطنهم ومستقبل أبنائهم.
أما القسم الثاني المتعلق بثوابت بناء الوطن وأسس بناء الدولة والمحافظة على التعدد والعيش المشترك الواحد، فيستدعي بحثاً معمقاً ورأياً صريحاً صادقاً، يستوجب مؤتمراً وطنياً تشترك فيه جميع القوى السياسية بما فيها العلمانية، والهيئات الثقافية والنسائية والنقابية والشبابية... إلخ. كي تبحث معاً مقتضيات تحقيق هذا الهدف الوطني، في ضوء الاستفادة من دروس التجربة العملية للنظام السياسي الطائفي منذ الاستقلال عام 1943 الى اليوم، وارتباطاً بحاجات بناء لبنان الوطن والدولة في ظروف الحاضر وموجبات المستقبل وبديهي القول انه لو كان الوضع طبيعياً وسليماً لما احتاج الى هذه المذكرة وغيرها من الوثائق والمواقف والرؤى... فالمشكلات كثيرة والازمات تتفاقم، ولم تكن الاسباب خارجية فحسب، بل داخلية في الأساس، وتتجلى في انقسامات عمودية وتناقضات صراعية ومتتالية تنبع من طبيعة نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية وقوانينه الانتخابية... فهي التي تستولد حياة سياسية طائفية، تنعكس في مجالين اساسيين لتشكل الوعي، هما المجال التربوي والمجال الاعلامي... وهذه الانقسامات والعصبيات المرافقة لها، تؤدي الى تمزيق نسيج مجتمعنا اللبناني، وتنشىء هويات جزئية (مذهبية وطائفية) بينما الهوية الكلية اي الهوية الوطنية الجامعة والموحدة للبنانيين، تغيب ويغيب معها الوطن، او يصبح في احسن الحالات في مؤخرة الاولويات. وينجم عن ذلك تبلد الحس الوطني والمسؤولية الوطنية، وجعل مصلحة الطائفة هي المعيار في النظر الى اي حدث او قضية، حتى اذا كان عدواناً او تدخلاً خارجياً، بل تصبح الطائفة »ومصلحتها« غطاء للاستقواء بالخارج وللمراهنة عليه والارتهان له، فتضيع السيادة الوطنية والقرار الوطني، وتنشأ الازمات، ويصبح تشكيل حكومة او انتخاب رئيس جمهورية، او حتى تسيير شؤون الدولة، في حاجة الى حاضنة او تدخلات ووصايات خارجية، واحياناً لانتظار حصول تقاطعات بين اطراف الخارج المتناقض المصالح والادوار اقليمياً ودولياً. الم تكن الحرب الاهلية الطويلة المدمرة، ثم مؤتمر الطائف، وبعده مؤتمر الدوحة، دليلاً على ذلك؟.
ان المسألة الاساسية هي في البحث الحقيقي عن الحلول التي لا تستولد الهواجس والمخاوف من الغبن والتهميش، والتي لا تبقي الدولة حصصاً ومزارع لزعامات الطوائف والمذاهب. وهذا لم توفره المرتكزات الطائفية للنظام السياسي، بل ادت التناقضات والصراعات العمودية الى جعل التعدد كأنه نقيض ومهدد للوحدة المتمثلة بكيان لبنان، وبالدولة وبالوطن، اللذين بقي كل منهما مشروعاً حتى الآن، بسبب العقبات التي ينتجها النظام المذكور... واذا ما تتطلب الميثاق الوطني قبلاً صيغة جرى الاتفاق عليها بهدف توافق اكثرية اللبنانيين لنيل الاستقلال، فان جوهر هذا الميثاق هو توفير شروط العيش المشترك وبناء لبنان الواحد وطناً ودولة، وليس البقاء في صيغ جامدة كانت ملائمة في ظروف معيّنة، ولم تعد قادرة على تحقيق الهدف الذي وجدت من اجله... لذلك فان صون التعدد كغنى وتفاعل حضاري ضمن الوحدة، وتحقيق السيادة الوطنية، وترسيخ السلم الاهلي، يستوجب توجهاً وطنياً جريئاً، واعتماد نهج ديموقراطي تغييري يهدف الى بناء دولة ديموقراطية على قاعدة المواطنة، ووطن حصين موحد، يتساوى فيه المواطجنون في الحقوق، ويعتمد الكفاءة والنزاهة في كل المجالات بديلاً للطائفية والمذهبية وعصبياتها. لأن الابقاء على البنية الطائفية والمذهبية للنظام، سيبقي لبنان في دوامة الازمات والاخطار.


كاتب سياسي شيوعي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم