الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

انتفاضة 17 تشرين اللبنانية والنقابات

غسان صليبي
انتفاضة 17 تشرين اللبنانية والنقابات
انتفاضة 17 تشرين اللبنانية والنقابات
A+ A-

إذا كان من الممكن اليوم تبيان حجم مشاركة النقابات في الانتفاضة اللبنانية ونوعيتها، فإنه من المبكر جداً توقّع تأثير الانتفاضة في هذه النقابات في المستقبلَين القريب والبعيد.

سبق وحذّرتُ في مقال سابق ("انطباعات نزهة فكرية على تخوم انتفاضة 17 تشرين اللبنانية") نشرته "النهار"، من التسرّع في إطلاق استنتاجات في فترة "التحولات"، حيث يجري الانتقال من حالة إلى حالة شبه نقيضة. التحول يلزمنا الحذر "تجاه فهم ما حصل، وما كان قبل أن يحصل، وما يمكن أن يكون الوضع عليه في المستقبل".

الاستنتاج الأهمّ إبان التحولات، هو أن الباحثين والناشطين لم يكونوا على بيّنة من المواقف الحقيقية الشعبية ما قبل الإنتفاضة أو الثورة، وهذا ما جرى استنتاجه في البلدان التي شهدت ثورات الربيع العربي. فالسلوك الظاهر لا يعبّر بالضرورة عن المواقف، وهذا على ما يبدو من سمات المجتمعات التي لا يحكمها نظام ديموقراطي يحترم حرية التعبير وغيرها من الحريات.

سأتناول في هذا النص واقع مشاركة النقابات في الانتفاضة اللبنانية، خصائص مشاركتها السابقة في التحركات الشعبية، والتأثيرات المحتملة لهذه الانتفاضة على النقابات في المستقبل. وسأحرص في الأقسام الثلاثة، على التزام الحذر في إطلاق الاستنتاجات.

1. هل شاركت النقابات في الانتفاضة؟

الانطباع العام في الإعلام وفي المقالات، أن النقابات غائبة كلياً عن الانتفاضة. التدقيق في الواقع يبرز المعطيات الآتية:

- "الاتحاد الوطني للنقابات" الذي يعمل خارج إطار الاتحاد العمّالي العام والمرتبط عضوياً بالحزب الشيوعي اللبناني، شارك بفعالية من خلال ما سمّي "اللقاء النقابي التشاوري" الذي يضم قوى نقابية قريبة من "الإتحاد الوطني".

- "اتحاد موظفي المصارف" أعلن في بيان تأييده لأهداف الانتفاضة، وليس معروفاً حجم مشاركة أعضائه الفعلية في الاعتصامات والتحركات. اتحاد المصارف هو عضو في الاتحاد العمّالي العام.

- الاتحاد العمّالي العام واتحاداته الأعضاء (نحو 50 اتحاداً) التزموا الصمت خلال الانتفاضة وإلى الآن، وليس معروفاً أيضاً مدى مشاركة أعضاء النقابات في الانتفاضة. مع الإشارة إلى أن الاتحاد العمّالي العام كان قبل يومَيْن من بدء الانتفاضة قد أعلن، بالاشتراك مع "هيئة التنسيق النقابية"، عزمه على الاعتصام والإضراب في 29 تشرين الأول، ومع حلول هذا التاريخ لم يصدر عن الاتحاد العام أي موقف ولم يبدر منه أي تحرك.

- هيئة التنسيق النقابية التي تضم نقابة المعلمين في الخاص وروابط المعلمين في العام بالإضافة إلى رابطة موظفي القطاع العام، كان موقفها يشبه موقف الاتحاد العمّالي العام.

- النقابات الحرة (أطباء، محامون، مهندسون...) لم تصدر عنها بيانات مؤيدة، وبدا الارتباك في مواقفها. لكن بعض أعضائها تجمعوا في ما يسمّى "تجمع مهنيات ومهنيين" وشاركوا في الانتفاضة. وضمّ هذا التجمع أفراداً من قطاعات الهندسة والمحاماة والطب والعمل الاجتماعي وأساتذة الجامعات، والاقتصاد والسينما والكتابة والتمثيل. وكان أيضاً للأطباء تحركات مختلفة مساندة للانتفاضة.

ما يجمع هذه النقابات والروابط التي لم تشارك، هو أن قيادتها هي كناية عن تحالف لأحزاب السلطة.

2. هل شاركت النقابات في التحركات الشعبية السابقة؟

يمكن في هذا المجال رصد الملاحظات الآتية:

- لم يشارك الاتحاد العمّالي العام وهيئة التنسيق النقابية والنقابات الحرة رسمياً في حراك سنة 2015 الذي انطلق حول قضية النفايات وشمل مسألة الضرائب والنظام الاقتصادي والسياسي. لكن بعض قيادات هذه النقابات، بمن فيها قيادة الاتحاد العمّالي العام شاركت بشكل فردي في بعض التحركات إلى جانب أفراد من النقابات.

- خلال مناقشة موازنة 2019 تحركت بعض النقابات والروابط دفاعاً عن حقوقها المكتسبة ورفضاً للاقتطاع من أجور العمال والموظفين وتعويضاتهم. وقد أضربت هذه النقابات وتلقت الدعم الكامل من الاتحاد العمّالي العام. لكن هذه التحركات بقيت ضمن حدود الدفاع عن الحقوق المكتسبة في كل قطاع ولم يجرِ التنسيق في ما بينها لتشمل السياسات التي كانت تطرحها الحكومة بما يخص موازنة 2019، رغم محاولة الاتحاد العمّالي العام الإعداد لورقة مشتركة تطرح سياسات بديلة وتنظم مؤتمراً عاماً مع الأطراف الآخرين المعنيين بهذا الشأن.

- البعض حاول المقارنة بين انتفاضة 17 تشرين و"ثورة الأرز" بما هي تجسيد لتوحد اللبنانيين على هدف واحد، رغم اختلاف هذا الهدف، الذي كان خارجياً في "ثورة الأرز" في حين أنه داخلي في الإنتفاضة الحالية. والبعض الآخر رأى في الانتفاضة الحالية شكلاً أكثر تطوراً وتوسعاً لحراك 2015، أيضاً بسبب توحّد اللبنانيين على مطالب، مع الإشارة إلى الفارق في حجم المشاركين ولا مركزية التحرك في الانتفاضة الحالية.

أميل إلى الاعتقاد أن الانتفاضة الحالية تشبه أكثر ما تشبه ورغم اختلاف الظروف، الإضراب العام والتظاهرات التي عمت المناطق اللبنانية سنة 1987، والتي قادها الاتحاد العمّالي العام في وجه الحرب وتدهور سعر صرف العملة الوطنية. في الحالتَيْن هناك مشاركة شعبية واسعة جداً، الأوسع في تاريخ لبنان المعاصر، ومن مختلف الطوائف، في أجواء من الانقسام الوطني. في الحالتَيْن هناك خوف من تدهور سعر صرف العملة الوطنية ومن مصير البلد (بسبب الحرب سابقاً وبسبب الانهيار المالي والصراع الدولي الإقليمي في لبنان حالياً). وفي الحالتَيْن هناك تحركات لا مركزية في المناطق مع تحرك مركزي في بيروت.

يبقى الفارق الأكبر أن تحرك 1987 كان بقيادة الاتحاد العمّالي العام ونقابات المهن الحرة والهيئات النسائية والشبابية، في حين أن انتفاضة 2019 غابت عنها الحركة النقابية اللبنانية. وهذه المقارنة كافية لتلمّس مدى تراجع الحركة النقابية اللبنانية في فعاليتها ودورها خلال العقود الأربعة الماضية.

لا بد من الإشارة إلى أن تحرك 1987 قام على التظاهرات والإضراب العام الذي استمر لخمسة أيام، وكان شاملاً المناطق اللبنانية مع بعض الخروق "الميليشيوية" في بعض المناطق. وإن غياب القدرة على تنظيم إضراب اليوم والاستعاضة عنه بقطع الطرقات، هو بسبب انكفاء الحركة النقابية القادرة تنظيمياً على الإضراب. لعل المثال الأقرب زمنياً حول أهمية الإضراب للتأثير في قرارات السلطة، هو ما حصل إبان الانتفاضة السودانية حيث نظمت النقابات المهنية التحركات الشعبية وقادتها.

3 – هل من تأثيرات محتملة للانتفاضة على النقابات في المستقبل؟

من المحتمل أن يكون لأربع خصائص على الأقل للانتفاضة، تأثير منفصل أو مشترك في النقابات.

- الخاصية الأولى هي هذه الاندفاعة المطلبية المدافعة عن معيشة المواطنين في إطار نظرة نقدية للسياسات المالية والاقتصادية المعتمدة. من المتوقع أن تضخ هذه الاندفاعة الحماسة في الأوساط النقابية من جهة، وإبراز الحاجة من جهة ثانية إلى مراجعة المطالب في اتجاه العمل على تغيير السياسات المالية والاقتصادية بدل الاكتفاء بالدفاع عن الحقوق المكتسبة.

- الخاصية الثانية هي في بروز كتلة شعبية مستقلة عن الأحزاب السياسية والطوائف، ومن الأرجح أنها تضم فئة من أعضاء النقابات التي يديرها حالياً ممثلون عن أحزاب أو تحالف ممثلي أحزاب. هذه الكتلة المستقلة في حاجة بالطبع إلى تظهير وتنسيق بين أفرادها في مختلف النقابات والاتحادات.

- الخاصية الثالثة هي تمظهر الخصم الأول للانتفاضة تحت شعار "كلن يعني كلن"، الذي يعني عملياً الأحزاب السياسية الفاعلة في لبنان.

وإذا علمنا أن هذه الأحزاب السياسية هي التي تسيطر على النقابات في لبنان، أكان في الاتحاد العمّالي العام، أم في هيئة التنسيق النقابية، أم في المهن الحرة، يمكننا توقع قيام معارضة داخل هذه النقابات على أيدي الأفراد المستقلين المنتفضين.

من المفيد ربما التذكير بأن شعار "كلن يعني كلن" هو في الأساس من إنتاج هيئة التنسيق النقابية عندما كانت تنظم تحركاتها من أجل إقرار سلسلة الرتب والرواتب، حيث تبيّن لها عبر النضال أن مواقف الطبقة السياسية هي واحدة من مطالبها. وقد جرى لاحقاً تبني هذا الشعار وبلورته في الحراك الشعبي.

- الخاصية الرابعة، هي الأكثرية الشابة التي تتألف منها الانتفاضة، مع تساوٍ في مشاركة الشبان والشابات. معروف أن النقابات العمّالية تكاد تخلو من الشباب ومشاركة النساء في عضويتها وفي قيادتها ضعيفة.

لا يمكن التنبؤ بالشكل الذي ستتخذه هذه المعارضة العمّالية في المستقبل. فهل تبقى معارضة داخل النقابات الحالية، أم ستأخذ شكل بناء نقابات جديدة مستقلة، كما حصل في مصر والجزائر والأردن في موازاة الانتفاضات الشعبية التي حصلت في هذه البلدان، أكان ذلك خلال الربيع العربي (مصر والأردن) أم خلال الربيع الجزائري (سابقاً سنة 1989 وحالياً في سنة 2019)؟.

على الأرجح أنّ "تجمع مهنيات ومهنيين" سيلعب دوراً داخل نقابات المهن الحرة. وربما كان لـ "التيار النقابي المستقل" داخل هيئة التنسيق النقابية دور أكبر أيضاً إذا تمكّن من توسيع قاعدته لتطال عدداً أكبر من المستقلين إلى جانب الشيوعيين واليساريين.

أما في الاتحاد العمّالي العام فالمسألة أكثر تعقيداً، لا سيما أن 54% من الاتحادات التي يضمها الاتحاد العام هي ذات طابع مذهبي أو طائفي بقيادة أحد أحزاب السلطة. كما أن قيادة الاتحاد العام مؤلفة من تحالف أحزاب السلطة.

رغم هذه الصورة العامة، أود الإشارة إلى ثلاثة "تحوّلات" داخلية اختبرتها شخصيّاً.

- التحول الأول هو دراسة أجريتها مع أعضاء المجلس التنفيذي للاتحاد العمّالي العام ("رأي ولا موقف"، 2010) وقد بيّنت بوضوح امتعاض الأكثرية الساحقة من الوضع القائم ووصفها للاتحاد العمّالي العام بأنه غير مستقل وغير ديموقراطي وغير فعّال.

- التحول الثاني هو نوع من الإجماع في أوساط الكوادر النقابية من حزبيين ومستقلين، على ضرورة تعديل القانون النقابي في اتجاه المزيد من الاستقلالية للتنظيمات النقابية تجاه السلطة السياسية ووزارة العمل تحديداً، وبالتالي تعديل القانون بما يتلاءم مع الحرية النقابية المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية رقم 87 الصادرة من منظمة العمل الدولية. وقد أعدت الكوادر مشروعاً لتعديل المرسوم 7993 المتعلق بتنظيم النقابات وأرسلته إلى وزارة العمل.

- التحول الثالث هو إجابات قيادة الاتحاد العمّالي العام، خلال ورشة لوضع خطة استراتيجية، على السؤال الآتي: "لماذا بحسب رأيكم لا يحقق الاتحاد العمّالي العام مطاليبه؟" فتلخصت الأجوبة ضمن أربعة عناوين: تبعية الاتحاد العمّالي العام لأحزاب السلطة، هيكلية الاتحاد العمّالي العام وبنيته، أسلوب التركات المعتمد، التركيبة الطائفية للسلطة وصعوبة الضغط عليها.

كيف ستتفاعل هذه الاتجاهات الجديدة داخل الاتحاد العمّالي العام مع التأثيرات المحتملة للانتفاضة؟

المستقبل وحده لديه الجواب، الذي سيغذّي النقاش الدائر باستمرار في لبنان حول تفاعل البنى الطائفية مع البنى الاجتماعية-الاقتصادية، في تكوين مواقف المواطنين.

الجواب سيعتمد أيضاً ولا شك على التفاعل بين الانتفاضة والانتفاضة المضادة، التي بدأت بقوة عند كتابة هذه السطور.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم