البابا يلتقي شبيبة لبنان في بكركي: المستقبل بين أيديكم (صور)
في المحطّة الأخيرة لليوم الثاني في لبنان، التقى البابا لاوون الرابع عشر في ساحة الصرح البطريركي في بكركي شبيبة لبنان.
وامتلأت ساحات الصرح الخارجية في بكركي بالآلاف من الأشخاص من لبنان وعدد من دول العالم ومن فئات عمرية مختلفة، طغى عليها الفئة الشبابية التي رفعت الأعلام البابوية واللبنانية.
توجّه البابا في كلمته إلى شبيبة لبنان قائلاً: "أيها الشباب الأعزاء، ربما تشعرون بالأسى لأنكم ورثتم عالمًا مُمَزّقاً بالحروب ومُشوَّها بالظلم الاجتماعي. ومع ذلك، في داخلكم رجاء، وهو عطية لكم، يبدو لنا نحن الكبار أنه بدأ يتلاشى. أنتم أمامكم الزمن ومعكم المزيد من الوقت لتحلموا، وتنظموا، وتعملوا الخير. أنتم الحاضر، وبأيديكم بدأ المستقبل يتكون وفيكم اندفاع لتغيير مجرى التاريخ المقاومة الحقيقية للشر ليست بالشر، بل بالمحبة القادرة على شفاء جراحنا بشفاء جراح الآخرين".
وطمأنهم بالقول: "وطنكم، لبنان، سيزهر ويصير جميلاً وقوياً مثل شجرة الأرز، رمز وحدة الشعب وحيويته. تعلم جيدا أن قوة الأرزة في جذورها، وهي عادة بمثل حجم فروعها. عدد وقوة الفروع مثل عدد وقوة الجذور. وكذلك فإن كل الخير الذي نراه اليوم في المجتمع اللبناني هو نتيجة عمل متواضع وخفي وصادق لصانعي الخير الكثيرين، ولجذور صالحة كثيرة لا تسعى لنمو فرع واحد فقط في أرزة لبنان، بل كل الشجرة بكل جمالها. استمدوا من الجذور الصالحة للذين يخدمون المجتمع ولا يستغلونه لمصالحهم الخاصة والتزموا العدل بسخاء، وخططوا معا المستقبل يسوده السلام والتنمية. كونوا عصارة الرجاء التي ينتظرها بلدكم".
وشدّد على المحبة: "أيها الشباب الأعزاء، ما الذي يُعبّر أكثر من غيره عن حضور الله في العالم؟ المحبة. المحبة تتكلم لغة عالمية، لأنها تخاطب كل قلب. وهي ليست أمراً مثالياً، بل هي واقع وقصة أوحى الله بها إلينا في حياة يسوع المسيح والقديسين الذين يرافقوننا وسط محن الحياة. انظروا بصورة خاصة إلى الشباب الكثيرين، مثلكم، الذين لم يثبط عزيمتهم الظلم أو الشهادات الخاطئة، حتى في الكنيسة، بل حاولوا رسم طرق جديدة بحثاً عن ملكوت الله وعدله بالقوة التي يمنحكم إياها المسيح، ابنوا عالماً أفضل من الذي وَجَدتُّم أنفسكم فيه أنتم الشباب تقدرون أكثر من غيركم أن تنسجوا علاقات مع الآخرين، حتى لو اختلفوا عنكم في الخلفية الثقافية والدينية. التجدد الحقيقي الذي يتوق إليه القلب الشاب يبدأ بالأعمال اليومية بقبول القريب والبعيد، ومد اليد إلى الصديق واللاجئ، والمغفرة للعدو، التي هي أمر صعب لكن ضروري".
وقد توزّعت شاشات عملاقة على الساحات تنقل التحضيرات والاستعدادات من لوحات ترنيمية وإيحائيية خاصة بالمناسبة، إشارة إلى أن عدد المشاركين من الشباب فاق التوقّعات.
وقد امتلأت أيضاً الطرق المؤدية إلى بكركي بالمواطنين الذين توافدوا بكثافة لتحية البابا، وسط إجراءات تنظيمية اتّخذتها الجهات المعنية لتسهيل حركة المرور وضمان انسيابية الوصول إلى الساحة.

وقد قُرعت أجراس الصرح البطريركي، علت الترانيم الدينية والأغاني الخاصة لمناسبة زيارة البابا بصوت الجوقة المسكوبية واللوحات التعبيرية.
وفي إطار اللقاء، تمت إضاءة المساحة التي تركن فيها السيارة العريقة التي استقلها البابا بولس السادس خلال زيارته الرسولية للأردن والتي قدّمها الملك حسين إلى البطريركية.

الراعي
وفي اللقاء المميّز، وجّه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي سلسلة مواقف عبّر فيها عن تقدير الكنيسة اللبنانية لزيارة البابا، مؤكّداً أهميتها الروحية والوطنية في ظرف دقيق يمرّ به لبنان.
وقال الراعي مخاطباً البابا لاوون إن "زيارتكم في هذه اللحظة الثمينة ستبقى محفورة في ذاكرتنا الجماعية، وشكراً لأنّكم نظرتم باتجاهنا بثقة. كلامكم سيكون لنا نوراً وتصويباً للمسار، ومباركتكم ولادة جديدة نتمناها جميعاً".
وأضاف أن "الشبيبة في لبنان يحبونكم، ويبحثون في كلماتكم عن الوضوح وكل ما يعزز الإيمان في نفوسهم"، مشدّداً على أنّ "الكنيسة تسعى إلى بناء لبنان جديد حيث الإيمان هو القوة، والنور أعظم من الظلام، وصوت الكنيسة يبقى صوت أمل لا خوف، وسلام لا عنف".
وأشار الراعي إلى أنّ "حضوركم بيننا هو نفحة روح على شعب متعب، وهو فجر جديد لوطن يبحث عن النور"، مضيفاً: "نسمع في هذه الزيارة صدى المسيح السائر على الطرق المعذّبة".
وختم: "أهلاً وسهلاً بكم في لبنان، البلد الصغير بمساحته والكبير برسالته، هذه الأرض المقدّسة التي التقت فيها الحضارات والأديان كما الشرق والغرب".

وجاء في الكلمة الكاملة للراعي:
"باسم مجلسِ البطاركةِ والأساقفةِ الكاثوليك في لبنان، وباسم شبيبةِ لبنان، نتقدّمُ منكم بأحرِّ التّحايا وأصدقِ عباراتِ الترحيب. نُحيّيكم بطوبى الإنجيل التي تُلهِبُ القلوبَ حماسةً واندفاعاً وحثاً: "طوبى لفاعلي السّلام".
أهلاً بكم في لبنانَ، هذا البلدِ الصغيرِ بمساحته، الكبيرِ برسالته، الأرضِ المقدّسةِ التي شاء اللهُ أن يلتقيَ فيها الشرقُ والغرب، وتتقاطعَ فيها الثّقافاتُ والحضاراتُ في عنصرةٍ روحيّةٍ واجتماعيّةٍ وإنسانيّةٍ متعدّدةِ الهُويّات. أهلاً بكم على أرضِ الأرز، تلك الشّاهقاتِ الصّامتات، الرافعةِ أذرعَها نحو اللّامتناهي، كأنّها مزاميرُ تنبعثُ من تربةِ الأرض إلى السّماء.
أهلا بكم في بكركي، هذا الصرحِ البطريركي العريق، دارِ الرجاء ومنارةِ الإيمان، الذي بقي على مدى القرون قلبَ الكنيسةِ النابضَ في الشّرق.
اليومَ يستقبلُكم لبنانُ، لا ببهرجة القصور، بل برهافةِ جراحه. يُقدِّمُ لكم أثمنَ ما يملِكُ: دموعَه وقد صارت لآلئَ رجاءٍ، وجبالَه وقد غدت مذابحَ تضرّعٍ وصلاة.
إنّ حضورَكم بيننا، يا قداسةَ الحبر الأعظم، هو نَسَمةُ روحٍ تُلامسُ شعباً أضنتهُ الأيّام، وفجرٌ جديدٌ يطلعُ على وطنٍ لا يزالُ يبحثُ عن النّور. وفي خُطاكم نسمعُ صدى المسيحِ وهو يمشي على دروبنا الـمُثخنةِ بالجراح، هامساً لنا من جديد: "لا تخافوا".
ومن رُبى بكركي، تُطلّون على شعبٍ يتألّم، يتوجّع، ينتحب، لكنّ إيمانَه الصّامدَ يجعلُه قوياً؛ وعلى شبابٍ يتشبّثُ بمستقبله في أرضه، ينهضُ بعزيمة لا تلين، ويرفعُ إليكم توسُّلَه المتضرِّع:
تكلّموا إلينا، يا أيها الأبُ الأقدس، عن الرّجاء الذي لا يـُخزي؛ عن الرّجاءِ الذي يـَمضي متواضعاً، ثابتاً، باسلاً، يقاومُ العواصفَ الهوجاء.
وعلى صعوبة المسير، فإنّ شبابَنا يتطلّعون إلى بناء لبنانَ جديدٍ، لبنانَ يحتضنُ تعدّدَ انتماءاتِه الدينيّةِ والثقافيّة، ويُثمِّرُها في روح الأخوّةِ والوئام. يريدون وطناً يكونُ فيه الإيمانُ قوّةً فاعلةً لا انطواءً، ويكونُ فيه التنوّعُ غِنىً لا انقساماً، والسلامُ فيه غلبةً على البَغضاء وإخاءً مستداماً.
لقد عرفكم العالمُ، أيها الأبُ الأقدس، بوجهِكم الوديع، وبابتسامتِكم التي تُنيرُ القلوب، وبكلمتِكم الصادقة التي تخرجُ من عمق الإيمان.
أنتم بابا القربِ من الناس، بابا الإصغاءِ والرحمة، وبابا السّلامِ الذي يذكّرُ العالمَ بأنَّ اللهَ لا يتركُ شعبَه، وأنّ النورَ أقوى من الظّلمة، وأنّ صوتَ الكنيسةِ هو دوماً صوتُ الرجاءِ لا الخوف، وصوتُ السلامِ لا العنف.
شبابُ لبنانَ يُحبّونكم، يا قداسةَ البابا. ينتظرونكم بقلوبٍ متّقدة، تتوقُ إلى سماع كلمةِ حياةٍ من فمكم وسطَ هذه الأزمنةِ العصيبةِ التي يعيشونها. في كلماتكم يبحثونَ عن النّور الذي يُبدّدُ الظِّلال، وعن القوّةِ التي تُنعِشُ الإيمانَ بإلهٍ حاضرٍ أبداً في مستقبلهم. يتطلّعون لأن يجدوا فيها الشجاعةَ الحقيقيّة: شجاعةَ أن يُحبّوا بعدُ، وأن يُحبّوا دائماً، رغمَ المحنِ وخيباتِ الأمل. ويفرحون بوجودكم بينهم، لأنّهم يرون فيكم أباً يُصغي إليهم ويُرافقُهم، وصوتاً يدعوهم إلى الثّبات في الإيمان، انتصاراً للمعنى على العبثيّة، ويدعوهم إلى التمسُّكِ بالرّجاء، انتصاراً للعزيمة على الإحباط، ويدعوهم إلى الالتزامِ بالخير، انتصاراً للسّلامِ على ثقافة الموت.
قداسةَ الحبر الأعظم،
نُعربُ لكم عن شكرنِا العميق على تكريمكم أرضَنا بحضوركم، في أوّل زيارةٍ رسميّة من حَبريّتكم المباركة. سيبقى هذا اللقاءُ الثمينُ محفوراً في ذاكرتنا الجماعيّة. شكراً لأنّكم تنظرون إلينا لا بعين الأسى، بل بعين الثّقة. ستكونُ كلماتُكم لنا نوراً وهداية، وبركتُكم وعدَ نهضةٍ نتوقُ إليها ونتأرّقُ انتظاراً لها.
باسم مجلسِ البطاركةِ والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وباسم شبابِ لبنان - هذا الشبابِ الجريح، لكنه صامدٌ، صلبٌ، متصدٍ، نابضٌ بالعزم - نقولُ لكم: أهلاً بكم في بيتكم، يا أيّها الأبُ الأقدس. أهلاً بكم في دار الإيمان؛ أهلاً بكم على أرض الأرز والصّليب؛ أهلا بكم في قلبِ أبنائكم الخافقِ بالإيمانِ والمحبّةِ والرّجاءِ والفرحِ والطّاقةِ والإرادة. قداسةَ الحَبرِ الأعظم، شكراً لحضوركم ! شكراً لبركتِكم!".

لوحة تعبيرية
ثم تلا منسّق الشبيبة في الدائرة البطريركية في بكركي الخوري جورج يرق نصاً من الإنجيل بعنوان "سلامي لكم سلامي أعطيكم".
بعدها، قدّمت مجموعة من الشبان والشابات بأعمار منوّعة لوحة تعبيرية جسدت معاناتهم، وسط الأزمات التي شهدها ولا يزال لبنان.
وأكّدوا أن الدمار بعد انفجار 4 آب دمّر القلوب وليس الحجر فقط. وتابعوا أن هذه الكارثة لم تثنهم عن المساعدة بكل قوتهم بفضل الرجاء بالرب يسوع وبأن حبهم للبنان اقوى من خوفهم.
واعتبروا أن بذرة السلام ستنمو في هذا الوطن المتمسّك بالحياة.
ثم كانت شهادة حيّة لشاب، أكّد أن "ما من وطن يحيا من دون شبيبة تؤمن به ولبنان يستأهل ان نبقى فيه على الرغم من الصعاب".
ثم كانت شهادة حية لشابتين الأولى مسيحية والثانية مسلمة عرضتا خلالها تجربتهما "الحقيقية في العيش المشترك خلال فترة الحرب الماضية"، وأكّدتا أن "فرق الدين تجمعه روح المحبة ليؤكد ان الله موجود عندما تتلاقى القلوب المختلفة وتشكل معنى التعايش".
نبض