بين سلاح الأمس واليوم... هل تُكرر تجربة "القوات" مع "الحزب"؟

بين سلاح الأمس واليوم... هل تُكرر تجربة "القوات" مع "الحزب"؟
قافلة سلاح للقوات اللبنانية 1990.
Smaller Bigger
بيار جبّور باحث في شؤون مكافحة الإرهاب

تُهيمن قضية سلاح "حزب الله" اليوم على المشهد السياسي اللبناني، بما تحمله من أبعاد أمنية وسياسية عميقة؛ فبينما يرى البعض فيه قوة ردع ضرورية، يتساءل آخرون عن المخاطر الاستراتيجية العميقة التي يفرضها بقاء هذا السلاح خارج سيطرة الدولة. إنها معضلة تتجاوز الحسابات الأمنية التقليدية، وتضع لبنان على مفترق طرق بين تحقيق السيادة الكاملة أو الاستمرار في دفع ثمن هذا الواقع المعقد.

بدأت الحرب اللبنانية فعليًا في 13 نيسان 1975، لكن التمهيد لها كان قبل ذلك بكثير، بدءاً من اتفاق القاهرة 3 تشرين الثاني 1969 وما تبعه. كل هذه العوامل مهّدت للحرب، وبلغت الذروة بإشعال فتيل الانفجار في حادثة عين الرمانة. انقسم لبنان بين معسكرين، معسكر القوى "الوطنية" من فلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين (المسلمين)، ومعسكر الجبهة اللبنانية (المسيحيين). رفع المسلمون شعار "الثورة الفلسطينية"، والتي جرّ خلالها الفلسطينيون وحلفاؤهم اللبنانيون البلاد لجعل لبنان الوطن البديل. بينما تمسكت أحزاب الجبهة اللبنانية بالحفاظ على السيادة الوطنية انطلاقاً من المحافظة على أرضها، وتمسّكها بالمكتسبات منذ عام 1943. وهكذا جرّت الحرب التدخلات الإقليمية (سوريا وإسرائيل) والدولية (أميركا والاتحاد السوفياتي)، واستمرت حتى عام 1990، وانتهت باتفاق الطائف في عام 1989.

قانونية احتكار السلاح 
نص "الطائف" على حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، وتسليم السلاح إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر من إقرار الميثاق الوطني (الميثاق المنبثق عن الطائف) مع خطة حكومية تمتد لسنة لبسط السيادة. هذا الإطار القانوني وفّر غطاءً شرعياً لعمليات التفكيك والدمج اللاحقة. أما استثناء "المقاومة" وفتح ثغرة لـ"حزب الله" بدعم سوري وغض طرف دولي، فهو ما أوصلنا إلى الحروب المتتالية بين إسرائيل والحزب؛ لأن بيانات ما بعد هذا الاتفاق لم تسمِّ "حزب الله" بالاسم، واكتفت بالإشارة إلى "حق المقاومة" في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي، ما أتاح بقاء سلاح الحزب خارج آلية التفكيك التي خضعت لها بقية الميليشيات. هذه الثغرة التأسيسية تُفسِّر كيف تحوّل الاستثناء التكتيكي إلى واقع استراتيجي دائم.

لاحقاً، دعا مجلس الأمن إلى تفكيك ونزع سلاح كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، في القرار 1559 (2004) والقرار 1701 (2006). ثم كرّر القرار 1701 دعوة لتنفيذ الطائف و1559 وتأكيد ألّا يكون في لبنان "سلاح أو سلطة" خارج الدولة، بالتوازي مع بسط سلطة الجيش واليونيفيل جنوب الليطاني. شكّل هذا الأساس الدولي الذي يُستدعى اليوم في نقاش سلاح "حزب الله"، وخصوصاً بعد حرب الإسناد حيث تبيّن أنه عبء وليس قوة ردع أدى الى تدمير إسرائيل لبنان عموماً والضاحية والجنوب والبقاع خصوصاً.


ما الذي تغير بعد حرب 2023-2024؟
1- إنهاك عسكري وتآكل قيادي:
ألحقت الحملة الإسرائيلية الواسعة خسائر كبيرة ببنى القيادة الميدانية لـ"حزب الله" وبترسانة صواريخه. تشير تقارير صحافية غربية ولبنانية إلى أن الحزب أضعف مما كان قبل الحرب، مع استمرار الضربات الجوية الإسرائيلية التي تستهدف محاولات إعادة البناء. إذا أردنا مقارنة وضع حزب "القوات اللبنانية" خلال تسليم سلاحه، فكان يمر بوضع مختلف تماماً عن وضع "حزب الله" الحالي، إذ لم يكن يمتلك نقطة ضعف مماثلة. وكان تسليم السلاح خطوة حاسمة حمت لبنان والمسيحيين وقياداته، رغم حملة الاعتقالات والتنكيل التي شنها النظام الأمني اللبناني-السوري آنذاك. المفارقة تكمن في أن "القوات" صمدت واستمرت، بينما زال النظام الذي حاول قمعها. 

2- ضغط دولي-إقليمي مشروط بإعادة الإعمار:
تربط خطة توم برّاك المطروحة أميركياً وقف الضربات، وانسحابات إسرائيلية محددة، ومساعدات إعمار/إصلاحات مالية، بجدول زمني لنزع سلاح "حزب الله" تدريجياً. تُواصل بيروت مفاوضاتها بشأن المقترح المطروح، لكن حتى هذه اللحظة، ليس هناك أي مؤشرات واضحة تدل إلى تلبية شروط برّاك. أمّا الحزب فيربط تفكيك سلاحه بانسحاب إسرائيل من "النقاط الخمس" ووقف الاعتداءات، لكن هذا المطلب ليس سوى مبرر لبقاء السلاح؛ فالحزب يتصرف كمنتصر، بينما واقع الأمر يثبت العكس.
لا يمكن حل قضية "النقاط الخمس" (مزارع شبعا الجديدة) بالعمل العسكري؛ لقد أظهرت تجارب الحزب الحربية الأخيرة مع إسرائيل عدم جدوى هذا النهج. الحل يكمن في الضغط الدولي والديبلوماسي، كما حدث مع قرار مجلس الأمن الدولي 425 الذي أدى لانسحاب إسرائيل من الجنوب، وليس عبر المواجهات المسلحة التي أثبتت نتائجها أنها كارثية. أمّا الحديث عن مسألة "التحرير" فلم تعد تنطلي علينا كمحللين عسكريين. فعلى أرض الواقع، لم تتجاوز عمليات الحزب ضد الجيش الإسرائيلي حتى عام 2000 مجرد "عمليات إزعاج" وفق المنطق العسكري، ونتائجها واضحة للجميع.

3-  تحول في الخطاب الرسمي اللبناني:
يتحدث الرئيس جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام عن احتِكار السلاح عبر حوار لا فرض بالقوة، مع تعزيز انتشار الجيش (هدف 10000 جندي جنوباً) كخطوة تمهيدية لعملية انتقال السلاح. هذا النمط التفاوضي يستلهم جزئياً تجارب التفكيك التاريخية لكن بترتيبات ميدانية أوسع. مع العلم أنه إبان حلّ الميليشيات في عام 1991 كانت هناك دولة محتلة هي سوريا تملي على السلطة اللبنانية قراراتها ونفذت اتفاق "الطائف" وفق النظرة السياسية السورية، في ظل تراخٍ  دولي وإقليمي، وذلك تعويضاً لسوريا لمشاركتها في حرب الخليج الأولى. أما اليوم، فكل هذه المخاوف غير موجودة لأن الدولة اللبنانية هي فقط صاحبة السلطة والمشروعية السياسية.

دروس من تجربة "القوات اللبنانية" 
1- لا تسليم بلا حزمة ضمانات سياسية مكتوبة:
هذا الأمر غير مطروح بالأساس لأن الدولة اللبنانية هي الحكم والضامن الوحيد. على عكس ما كانت عليه الحال إبان النظام الأمني اللبناني-السوري، الذي فرض احتلالاً وأقصى القوى الأخرى. "حزب الله" اليوم ليس قوة خارج المنظومة؛ فهو مشارك في المجلس النيابي ومجلس الوزراء، ويجلس إلى طاولة القرار على عكس وضع "القوات" عام 1991، التي تعرضت للإقصاء التام بعد تسليم سلاحها، وشمل ذلك الحظر والسجون، ولم يكن لها تمثيل وزاري أو نيابي يُعتد به.

2- دمج الأفراد في الجيش:
في عام 1991، شهد لبنان عملية استيعاب للمقاتلين تميزت بالانتقائية وعدم التوازن، ما أدى إلى مظلومية كبيرة. فقد انضم عدد قليل جداً من مقاتلي "القوات اللبنانية" إلى الجيش، وحتى هؤلاء تعرضوا للملاحقة، ما دفعهم لترك الأسلاك الأمنية.
اليوم، يختلف الوضع تماماً بالنسبة لـ"حزب الله"؛ فهو ليس بحاجة للانضمام إلى الجيش لأن النسبة الشيعية في الأسلاك الأمنية مؤمنة ومريحة له. أما فكرة دمج وحدات قتالية من الحزب في الجيش، فهي مرفوضة بالمطلق من غالبية اللبنانيين، ولا يمكن اعتبارها مطلباً محقاً.

إن استمرار سلاح "حزب الله" خارج إطار الدولة لم يعد يُشكّل ورقة قوة للبنان، بل عبئاً استراتيجياً يهدّد سيادته ويعيق إعادة بناء مؤسساته. التجارب التاريخية، وخصوصاً تجربة حلّ الميليشيات بعد اتفاق الطائف، تثبت أن احتكار السلاح بيد الدولة هو الشرط الأساسي لإعادة إنتاج الاستقرار السياسي والأمني. اليوم، تتوافر لحظة تاريخية نادرة تجمع بين ضعف الحزب بعد حرب 2023-2024، والضغط الدولي-الإقليمي لإعادة الإعمار، ووجود إرادة سياسية داخلية تدعو لحصر القوة العسكرية بالجيش اللبناني. لذلك فإن أي تأخير في تبنّي خريطة طريق واضحة لنزع السلاح سيبقي لبنان رهينة صراعات الآخرين، فيما الفرصة الآن سانحة لاستعادة الدولة هيبتها وسيادتها الكاملة.

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 11/22/2025 12:24:00 PM
حرّر محضر بالواقعة وتولّت النيابة العامة التحقيق.
اقتصاد وأعمال 11/20/2025 10:55:00 PM
الجديد في القرار أنه سيتيح للمستفيد من التعميم 158 الحصول على 800 دولار نقداً إضافة إلى 200 دولار عبر بطاقة الائتمان...
سياسة 11/20/2025 6:12:00 PM
الجيش اللبناني يوقف نوح زعيتر أحد أخطر تجّار المخدرات في لبنان
سياسة 11/22/2025 12:00:00 AM
نوّه عون بالدور المميّز الذي يقوم به الجيش المنتشر في الجنوب عموماً وفي قطاع جنوب الليطاني خصوصاً، محيّياً ذكرى العسكريين الشهداء الذين سقطوا منذ بدء تنفيذ الخطّة الأمنية والذين بلغ عددهم 12 شهيداً.