الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

فضيحة سينمائية: صالات بيروت تلطف صورة عصابات وول ستريت!

المصدر: النهار
A+ A-

ماذا يكون ردّ فعل مارتن سكورسيزي ومونتيرته تيلما شونمايكر عندما يعلمان ان أحدث أفلامهما، "ذئب وول ستريت"، يُعرض في صالات بيروت مشوَّهاً ومبتوراً بنحو نصف ساعة؟ هذه العاصمة التي لم تعد ممارستها الاعتباطية في مجالات عدة تفاجئ كثيرين، ها انها تستعّد لفضيحة فنيّة جديدة: جريمة عن سبق تصوّر وتصميم في حقّ عمل سينمائي كبير وقّعه أحد معلّمي الإخراج في العالم.
عُرض الفيلم كاملاً بدقائقه الـ179 على الصحافة في مطلع الأسبوع الفائت. ليست هذه حال النسخة المشوّهة التي تقدمها الصالات التجارية منذ الخميس الماضي. على الرغم من منع الفيلم على مَن هم دون الثامنة عشرة، اقتُطعت مشاهد عدة من هذه الملحمة الاقتصادية التي تروي صعود جوردان بلفورت، أحد أباطره المال والسمسرة في وول ستريت (ليوناردو دي كابريو) وهبوطه المدوّي، حدّ أن الكثير من الأحداث صارت تبدو باهتة. هذا بالإضافة الى أن الحذف أحدث خللاً في الإيقاع، وفي طبيعة الحال جعل الترابط بين اللقطات مفقوداً وغير منسجم.
أكثر المشاهد التي طاولها الحذف، هي تلك التي تصوّر حفلات جنس جماعية يقيمها بطل الفيلم مع حاشيته، وهي مشاهد فيها شيء من الطرافة أكثر من تضمّنها البورنوغرافيا (باستثناء مشهد خاطف نرى فيه كبير الخدم ــ وهو مثليّ ــ في حفلة مع رفاقه المثليين). النسخة اللبنانية للفيلم كأنها أرادت تلطيف "أفعال" عصابات وول ستريت المالية، وتلميع صورتها وغسل بعض العار الذي حاصرتهم فيه رؤية سكورسيزي بسخريته الهدّامة.
لم يقتصر الحذف على هذه اللقطات فحسب، بل شمل أيضاً بعض المقاطع العادية. هناك مثلاً مشهد يروي فيه معاون مليونيرنا اللصّ (جونا هيل) بنكهة فكاهية عالية كيف انه تزوج من ابنة عمه خشية أن يتزوجها رجل آخر. هذا المشهد حُذف بالكامل ما يجعل النكتة التي تُطلَق لاحقاً في شأن الزواج غير مفهومة البتة من المتفرج. القضية نفسها تتكرر مع مشهد يروي فيه بلفورت كيف انتشل إحدى الموظفات من واقعها الحياتي المرّ. هو الآخر، سقط بالكامل من الفيلم، على الرغم من أهميته لإظهار الجانب "المبرراتي" في خطاب بلفورت، وهو الشيء الذي يصرّ عليه سكورسيزي في غير مقطع. مشهد آخر تبخر أيضاً (الصورة المرافقة للمقال)، نرى فيه أحد الموظفين يتعرض لاهانة جماعية لأنه كان يهتم بسمكته خلال ساعات العمل، فينتزعها منه المدير ليأكلها. "بح"!
جاء الحذف لنوعين من الأسباب: سبب "أخلاقي" وسبب تجاري. السبب الأول يحمل بصمات الرقابة التي يرى مراقبون أنها صارت في المرحلة الأخيرة أكثر تسامحاً حيال بعض ما كان في دائرة المحظورات سابقاً. أما السبب الثاني، وهو الأكثر إثارة للدهشة والغرابة، فهو محض اقتصادي (في فيلم يدين النفعية). لنوضح: تاريخياً، الأفلام التي يتخطى طولها الساعتين وربع الساعة، تثير تململ الموزعين وأصحاب الصالات، اذ انها تضطرهم الى اقامة عدد معيّن فقط من العروض يومياً. حتى ان هناك صاحب صالة كان يتذمر من طول بعض الأفلام لأنه لا يترك ما يكفي من الوقت لعمال التنظيفات كي يدخلوا الى الصالة للمّ علب البوب كورن المرمية على الأرض.
لم ينسَ السينيفيليون القدامى في لبنان الفضيحة التي أحدثها موزع كبير، عندما اعاد ترتيب أحداث "بالب فيكشن" ("سعفة" كانّ لعام 1994) لكوانتن تارانتينو وفق السرد الكرونولوجي لأنه اعتبرها عصية على الفهم و"صعبة" بالمفهوم التجاري. ببد ان الشركة الأمّ اكتشفت النسخة اللبنانية، ما أرغم الموزع، وهو واحد من أبرز تجار المواد الغذائية في لبنان، على العودة عن قراره. الرواية نفسها تكررت مرة ثانية عندما قصّ الموزع نفسه نحو ربع ساعة من فيلم "كيل بيل 2" (تارانتينو أيضاً وأيضاً)، ولكن أعادها مرغماً الى الفيلم بعدما نُشرت مقالة في احدى الصحف تكشف هذا الحذف وتنصح المشاهدين بالمقاطعة. حالات أخرى كانت أقل حظاً، فلم ينتبه كثيرون الى الآثار السلبية التي خلّفها المقص في جسد الفيلم. نتذكر منها ما حدث مع فيلم "جوع" لستيف ماكوين لدى عرضه محلياً عام 2008، حيث طار مشهد تعذيب السجناء (على يد الرقابة هذه المرة) في تجاهل كامل ومهين لما يمثله هذا المشهد، سينمائياً وسردياً وحتى أخلاقياً، في وجدان العمل!
حادثة مثل اعادة تركيب الأفلام أو اجتزائها على هوى مَن يملك إجازة عرضها، لا تشكل فقط تعدياً صارخاً على حقوق الملكية الفكرية، بل تجعلنا نسأل: هل هذه السياسة المنتهجة من بعض "ذئاب" التوزيع المتعطشين للربح السريع، قادرة على استقطاب الجمهور اللبناني واقناعه بأن الصالة السينمائية هي المكان الأساسي لمشاهدة الأفلام؟ وخصوصاً ان هذا الجمهور بات منذ سنوات عدة امام اغراءات كثيرة، ليس أقلها أهمية تمكنه من الحصول على النسخة المقرصنة من أيّ شريط من دون أن تكون قد تعرضت للغربلة أو للاستباحة على أيدي الذين لا يؤمنون بالسينما كفنّ من الفنون. هؤلاء يتاجرون بها كما غيرهم يتاجر بالبطاطا!


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم